أزيز, قصة قصيرة بقلم شوقي نسيم
الشاعر والقاص/ شوقي نسيم |
هبط بالطائرة على المدرج وأطفأ المحركات، نزع كاتم الصوت من على أذنيه، صم آذانه أزيز الطائرات والعربات التي تحمل الذخيرة والقنابل والصواريخ، فيحملها الجنود ويملئون بها بطون الطائرات التي سرعان ما تعود من طلعاتها فارغة بعد أن تقذف الآف القنابل والصواريخ على مدن العدو. كم يشعر بالفخر كونه طيارًا حربيًا يشارك في هذه الحرب المقدسة ضد أعداء الدين والوطن. لابد أنه سيحصل على ترقية بعد انتهاء الحرب وربما سيحصل أيضًا على نوط الشجاعة أو وسام أو نيشان على ما قدمه لأمته في هذه الحرب فقد كانت ضرباته موفقة مائة في المائة، لم يخطيء أي منها هدفه سواء كان عمارة سكنية أو مدرسة أو مستشفى أو حتى مركبة صغيرة يركبها أحد الأعداء. أسرع الخطى على أرض المطار متجهًا إلى مبنى القيادة ليعطي التمام بتنفيذ العمليه ويذهب بعدها للمقصف ليتناول قهوته الفرنسية مع وجبة خفيفة ثم يتجه بعدها لمكتب القيادة مرة أخرى ليتلقى تعليمات الطلعة القادمة. كان تليفزيون المقصف مفتوحًا وسرعان ما جاء النادل بصينية الطعام وبينما كان يضع الأطباق على المائدة خفض صوته وهو يعلمه أن التلفاز أذاع أن رئيس الدولة يجري مفاوضات لوقف إطلاق النار.وأن هناك هدنة على وشك أن تبدأ. صاح في غضب:- كيف يفعلون ذلك؟ إننا نوشك أن نلحق بهم هزيمة ساحقة، كيف يوقفون الحرب قبل أن نبيدهم جميعًا؟ تبًا لك أيتها السياسة، التقط قهوته في يده وغادر المقصف، اتجه مباشرة إلى القائد، ألقى عليه التحية العسكرية وسأله هل حقا ما سمعت أن هناك مفاوضات بشأن هدنة؟ أجابه القائد نعم تم الاتفاق بالفعل على هدنة لأربع وعشرين ساعة تبدأ من الآن، يمكنك الحصول على إجازة سريعة تقضيها مع زوجتك وأولادك على أن تكون بالمطار غدًا قبل ساعتين من الآن. خرج مطأطيء رأسه عكر المزاج. اتجه إلى حيث يركن سيارته، أدارها وخرج إلى الطريق محاولاً تحسين مزاجه قبل الوصول إلى المنزل ممنيًا نفسه بحضن حار من ابنته ووجبة شهية من يد زوجته بعد شهر غياب عن المنزل عاش فيه على أحاديث الهاتف والوجبات المعلبة، سرح بخياله في ابنته الصغيرة وكيف سيحكي لها عن أفعاله البطولية بطائرته في أرض الأعداء وكم المباني الذي هدمها والأعداء الذين قتلهم تحت الأنقاض. ارتسمت على وجهه ابتسامة الرضا، لم يلاحظ أن سرعة السيارة زادت عن السرعة المقررة لهذه المنطقة التي تعج بالحيوانات الأليفة وقبل أن يقرر خفض السرعة التزامًا بالتعليمات لمح جرو صغير يعبر الطريق خلف أمه، أدرك أنه لا محاله سيصدمه، ضغط بقدمه بسرعه على الفرامل زمجرت السيارة بفعل احتكاك الإطارات بأسفلت الطريق وتوقفت ولكن بعد أن قذفت الجرو الصغير مضرجا في دمائه على الأسفلت ،أفاق على نباح متقطع صادر عن الأم كأنه صراخ إمرأة فقدت ابنها أو نواح أم ثكلى، راحت الأم تحمل الجرو بأسنانها فتتجه به إلى جانب الطريق وضعته على الأرض وراحت تلعق دماءه النازفة بينما يخرج من فمها لهاث مرعب، تقرب أنفها من فم الجرو الصغير مستشعرة أنفاسه ثم تحمله بأسنانها جهة اليمين تارة وجهة اليسار تارة كأنها تبحث عمن ينقذ جروها من موت محقق .شاهد الطيار كل ذلك من داخل سيارته بحزن،داهمه إحساس بالشفقة نادرًا ما يشعر به وهو الذي لم تأخذه شفقة بآلاف القتلى الذين لقوا حتفهم تحت ضربات طائرته كان دائمًا ما يسكت صوت نداء داخلى في أعماقة بأنه يقتل فيمن يقتل أطفال ونساء أبرياء كان يسكت هذا النداء بإجابة مكررة إنهم يستحقون ذلك، أليسوا أعداء الدين والوطن كما تعلم من عظات رجال الدين وخطب السياسيين؟ أطل النداء الداخلي مرة أخرى قويًا هذه المرة أليس لآلأف الأطفال الذين قتلهم أمهات واباء ،أليس لكل شاب قتله حبيبة تنتظره ولكل إمرأة ماتت أطفال أورثهم آلام اليتم. فكر أن يطلب سيارة إسعاف للجرو الجريح لربما نجى من الموت لكن من سيقتنع بإرسال سيارة إسعاف لإنقاذ كلب صغير والوطن في حالة حرب سيتهمونه بالجنون، استدعت ذاكرته سيارات الإسعاف التي ضربها بطائرته، هل كانت تحمل أطفالاً جرحى بجوارهم أمهات تهش عنهم شبح الموت فماتت الأم محتضنة طفلها، يا لبشاعة مافعل، لابد أنه كان سبب في شقاء الآف الأبرياء، لابد أنه كان سببًا في أنهار من دموع الأمهات الثكلى والأطفال الأيتام، هل يسامحه الله؟ أليس هؤلاء أيضًا من مخلوقاته؟ كيف أقنعه هؤلاء السياسيين ورجال الدين بمشروعية ما فعل دون أن يرف له جفن؟ كيف أماتوا فيه جذوة الضمير وكيف أيقظها كلب صغير وأمه الآن؟ نظر نظرة أخيرة إلى الأم التي رقدت بجوار جثة جروها الصغير وراحت تطلق نواحًا خافتاً يفطر القلب، ضغط على دواسة الوقود ،تحركت السيارة ببطء شديد حتى وصل إلى بيته، أدار المفتاح في الباب وألقى تحية فاترة على زوجته التي كانت تنتظر منه حضن دافيء وقبلة حارة لكنه لم يفعل واتجه مباشرة إلى غرفة النوم متجاهلًا نظرات ابنته التي وقفت متعجبة من إهماله لها، أسرعت زوجته خلفه تستفسر عما ألم به وتسأله هل أصابه سوء؟ طمأنها قائلًا: أنا بخير فقط اتركيني أنام ولا توقظينى حتى أصحو وحدي إ وإذا اتصل المطار قولي لهم إنني لن آتي ولن أشارك مجدداً في إراقة دم إنسان، ولن أصبح وكيلاً عنهم في صب الحزن بطائرتي في قلوب ألوف الأمهات الثكلى ولن أعود إليهم كل يوم بقناطير من الدماء كي يشربوها فيسكرون حد الثمالة ويحدثونا بعدها عن نفس الأكاذيب المكررة عن نصرة الدين ومجد الوطن، قولي لهم أن حادثًا صغيرًا لجرو وليد قد أعاد إلي ضميري الأول الذي كانوا قد دفنوه تحت جبال عظاتهم وخطبهم العنصرية وخرافاتهم المقدسة، قولي لهم أنني على استعداد أن أقضي بقية حياتي في السجن كي أعود إنسانًا ولن أسلمهم عقلي مرة أخرى.