إبراهيم داود يرتجل أغنيته الخاصة فى " كن شجاعا هذه المرة "
الشاعر والناقد الكبير محمد السيد إسماعيل |
تعد مقولة الأجيال من المقولات الشائعة فى التأريخ للقصيدة المصرية المعاصرة بدءا من جيل الريادة وانتهاء بما يسمى شعراء الألفية الثانية
وعلى الرغم من الصحة المبدئية لهذه المقولة فلاشك أننا نلاحظ تحكم البعد الزمنى فيها دون أن يخلو الأمر من مقاربة الملامح الفنية
وعليه فإن مقولة " الموجات " الشعرية – التى قال بها بعض النقاد – هى الأكثر تعبيرا عن البعد الفنى الجمالى هذه الموجات التحديثية التى يمكن إلى ثلاث موجات تشمل الأولى جيلى الريادة والستينيات اللذين اشتركا فى خصائص جمالية مايزت بينهما وبين الموجة الثانية التى اقتصرت على جيل السبعينيات .
ثم الموجة الثالثة التى شملت الثمانينيات وما بعدها والحق أن هذه الموجة الثالثة لم تنطلق من مقولات جمالية عامة ينضوى تحتها الشعراء ويكتبون بهدى منها وهذا هو سبب التنوع الشديد فى تجارب شعراء هذه الموجة
وتعد تجربة إبراهيم داود من التجارب ذات الخصوصية الواضحة من حيث اهتمامه بالتفاصيل الصغيرة واستبطان الذات واعتبار الشأن العام شأنا خاصا أو لنقل إننا أمام حالة من شخصنة العالم أو رؤيته من خلال زوايا الذات الحميمة
ولعل ديوانه الأول الذى حمل عنوان "تفاصيل وتفاصيل أخرى" يكون مفسرا لهذا التوجه الجمالى الذى ظل داود حريصا عليه ، هناك ‘ذن انكسار لنموذج الشاعر النبى أو حتى الطليعى الذى شاع فى الموجة الأولى يتخلص داود من هذا ليقدم ذاتا منكسرة هامشية تستشعر وحدتها وعذاباتها وتقف على مسافة من العالم تلاحظه فقط لتدرك أن هناك مطرا خفيفا فى الخارج وأنه " لا أحد هنا " لكنه فى ديوانه الجديد " كن شجاعا هذه المرة " الصادر عن ميريت يحاول التخلص من هذا التاريخ الطويل من الخوف من العالم فالشاعر يجرد نفسه لكى يخاطبها بلغة تحفيزية وربما يكون هذا بأثر من ثورة يناير التى أفرد لها بعض القصائد ففى قصيدة " فراغ " يقول
" ستشرق لاشك / ولكن ليس غدا / النوافذ جفون متعبة / ولاتوجد بيارق / بقجة السماء فارغة وأعمدة الإنارة متعبة / ولايوجد ضوء عطوف فى الأفق / ستشرق فى يوم ما / ستشرق ونحن فى الطريق / خلفنا ليل ثقيل وبيننا الأيام"
يعدد الشاعر عوامل السلب التى يزحر بها الواقع :
النوافذ التى تشبه جفونا متعبة وانعدام البيارق وإجهاد أعمدة الإنارة بضوئها الشاحب وغياب الأمل – الضوء العطوف فى الأفق – لكن استنفار الإرادة واستشراف المستقبل يظل هو التيمة المهيمنة ولنلاحظ تكرار الفعل " تشرق " المسبوقة بسين التسويف ثلاث مرات فى بداية النص وقرب نهايته ، إنه الأمل الذى يتشبث به الشاعر بعد ليله الثقيل.
والحق أننا لسنا أمام انتظار سلبى بل انتظار من يمارس فعل الحياة ، انتظار من يمشى فى الطريق ولعل هذا يذكرنا بديوانه " حالة مشى " الذى بدت فيه الأجواء الصوفية
فالطريق هنا ليس مكان للعبور بل يوحى بدلالات روحية وهو ماجعل الشاعر يصدر الديوان بالكلام عنه حين يقول :
" اللغة متفق عليها / والعاشق الذى ضاق من الثرثرة عن العشق / يبحث عن طرق قصيرة / تفضى إلى البحر الكبير / طرق ضيقة تسكن إلى جانبيها الحياة "
البحث – هنا - عن طرق قصيرة مستقيمة لاتعرف الثرثرة عن العشق بل تفضى سريا إلى البحر الذى قد يكون الحب أو الكتابة أو الحياة الحقيقية وهى طرق ضيقة ما يوحى بالمجاهدة فهى أقرب إلى " الباب الضيق " الذى نصح المسيح بالدخول منه والابتعاد عن الأبواب الواسعة
ويبدو أن صفة " الضيق " لاتقتصر على الطرق فحسب بل تشمل البيوت وهو مايؤكد البعد الاجتماعى حين يقول:
" كان ذلك سهلا / أن تولد وتكبر / وتسكن بيوتا ضيقة بعيدة ....كان سهلا التعامل مع الضيق / كان سهلا الرجوع إلى البيت "
واستحضار البعد الاجتماعى يؤكد واقعية النصوص التى أشار إليها د.إبراهيم منصور غير أن الواقع – هنا – هو أداة من أدوات التشكيل مثله مثل اللغة
لهذا فإن شاعرنا يتذكر دائما الفرق بين الكاتب الذى يكتب عما يعرف والفنان الذى يكتب بما يعرف طبقا لمقولة إبراهيم أصلان ويستدعى الطريق تيمة المتاهة حيث لا أحد يعرف الطريق وإن ظهر بدت علاماته باهتة بعد أن اختلطت القيم بنقائضها وفقد الكلام أهميته وأصبح العدل مخفورا بالباطل
وفى نموذج آخر يأخذ السير فى الطريق معنى رحلة الحياة التى يخرج منها الشاعر كما دخلها ويتركها على طبيعتها الأولى يقول:
" أنت لم تتغير / فقط تتقدم فى العمر وأنت تتفادى الهزائم /..../ أصدقاؤك لم يتغيروا / فقط تقدموا فى العمر / وركنوا الحكايات الشجية / الحكايات التى يذكرونها بأسى فى الأيام العصيبة التى تحتاج فيها إلى أصدقائك / الطريق لم يتغير "
لا أحد يتغير وكأنها اللعنة الأبدية ولايتبقى سوى الحكايات الشجية التى هى أقرب إلى العزاء عن ذهاب العمر وإذا كان الشاعر قد تخلى عن دور النبى فمن الطبيعى أن يفقد اليقين فلا يوجد شىء مؤكد فحيث يوجد الخوف يقابله الأمل ويظن العابر أنه قد وصل دون أن يجد " رائحة للطعام " أو رائحة للحياة المتجددة ويصنع الشاعر مقابلة بين رائحة الطعام الدالة على الحياة وتلك الرائحة التى عمت المدينة فتركها " مياسر الناس "
بينما ظل الآخرون – الفقراء – يقاومون الرائحة التى أصبح لها صوت عال " ولم يعد هناك من يصغى إلى أحد " إن داود يعرف الشعر وهو يمارسه وهو يلعب مع الكلمات إن طريقته فى الكتابة تشبه طريقته فى اللعب مع صديقه الشاعر إبراهيم عبد الفتاح الذى يقول له:
" ...ولعبنا / طريقتك فى اللعب تشبهك / أنت لاتدافع أبدا / وتغضب كثيرا من " الزهر" / وطريقتى أتعرف عليها وأنا ألعب "
والإحساس بالوحدة تيمة رئيسة فى شعره ويرى أن الوحيد " هو الشخص الذى يرجع إلى بيته كل ليلة / ولايعرف نهاية للطريق "
وكذلك الاغتراب الذى جعل الناس لاينظرون فى عيونهم يقول " لاأحد ينظر فى عين الآخر / المقهى ضاق / والغرباء يتوافدون والليل فى أوله "
والحزن – الذى توقف أمامه عبد الصبور – ملمح آخر يقول " لا أحد يجرى وراءنا / فقط ..يوجد حزن فى الظهيرة / ويوجد حزن فى المساء "
الفرق بين عبد الصبور وداود أن الأول حاول ترميز الحزن بينما الثانى يتعامل مع دلالته الواقعية ويصبح النوم ملاذا للابتعاد عن العالم ويتحول الجهل بالموسيقى إلى سبب فى الضياع وهيمنة الحزن يقول :
" لايخافون التاريخ / التاريخ الذى يسطره الحزن الآن / فى مكان ما / جهلهم بالموسيقى ضيعنا " ونلاحظ قلة سطور هذا النص وهى سمة فى الديوان يمكن وصفها " بالنص الومضة " وكذلك اقتراب الديوان من الشفاهية وآية ذلك استخدامه لبعض التراكيب العامية مثل " أنت هناك / وشاهدت جثمانه / وربما حملته / يظهر وأنت شارد /../ يظهر وأنت تقطع شارعا " فقوله " يظهر وأت شارد .." يقترب من التركيب العامى .
كما يصبح الليل – بما أنه نقيض نهار المعيشة – إلى شاعر له رائحة غامضة وطازجة فالظلام رحيم يحمينا من قسوة الواقع الذى تتكاثر فيه المدن ويقل الماء ويصبح مجرد رؤية البلاد فى النهار حلما يراود الشاعر دون أن يناله وهو فى عزلته تتمترس الحواجز داخله وتحاصره البنادق من الخارج :
" توجد حواجز بداخلك / وبنادق مصوبة من مكان ما / ولايوج زيت فى البيت / .../ أنت فى غرفتك تشتاق إلى بلادك فى النهار وتدعو لها بالليل / ولاتصنع شيئا آخر" وثنائية الليل والنهار تستعى محور الزمن المؤلم خاصة فى وقع آثارها على الجسد يقول " التجاعيد التى ظهرت / تبدو حديثة العهد بالزمن / تبدو طرية وتستعد للركض "
ويلعب اتساع المكان دوره فى تدعيم الإحساس بالمتاهة خاصة مع تقدم العمر حين " نبحث عن لحن جديد / نخرج معه إلى الخلاء / لنعرف أين صرنا ؟/ بلادنا واسعة ونحن نتقدم فى العمر " وتتساوى – فى رؤية الشاعر – أبعاد الزمن : الماضى الذى يتربص به والحاضر بدخانه الكثيف أمام المداخل وكوابيسه التى تحاصر الكوكب والمستقبل الذى يعد امتدادا لهذا وفى هذه الحالة يبدو الأمل حدسا ونوعا من الظن :
" كأننا فى نهار / فى أول النهار / وكأنا فى بلدنا من جديد " بينما يمثل غياب المدينة يقينا لاتخطئه العين كما تبدو علاقته بالمرأة ملتبسة فهى حين " تعبر بمشيتها المحببة فى منطقة غائمة من العمر / تعرفه ولاتعرفه " وهو " يعرفها ولايعرفها " وأصبح " وسط المدينة " غريا بعد أن سقط فى أيدى المخبرين وكتاب الحكايات الأكثر مبيعا ووسط هذه الإحباطات " مازال هناك متسع للعناية بالأمل "
ومازال هناك يقين فى الحب حيث يكون الشاعر فى أفضل حالاته مع حبيبته وفى حضنها يشم رائحة أول الخلق وهو يتكلم مثل المجاذيب .
ويبدو أن التصوف – السلوكى تحديدا – مصدر أساسى فى تجربة داود ففى " الخدمة " نجده جنديا لدرويش يفيض كرما فى " الموالد "
وعلاقة شاعرنا بالغناء معروفة لهذا يتكرر هذا الدال سواء كان غناء فرديا أو جماعيا يقول " ضع أحلامك البسيطة فى مكان آمن / ستحتاجها فى الغناء الجماعى ذات يوم " وكما ذكرنا أنه لايعرف الكتابة إلا وهو يمارسها فهذا مايصدق على العزف الذى يرتجله أيضا :
" تعزفين " كما يقول الكتاب " / وأنا أرتجل بآلاتى القديمة جملا حزينة / تحمل رعشة الناى وأشواق الدراويش " إن إبراهيم داود ظل يحفر فى أعماق طريقته الشعرية المتميزة التى أخلص لها وارتجل أغنيته الخاصة الصافية .