رسالة إلى إيلا ، قصة بقلم فاطمة حمزة

 رسالة إلى إيلا - قصة قصيرة بقلم : فاطمة حمزة 

كانت كلماتها تمنعني كلما نويت أن أفاتحها في قرار اتخذته وحدي منذ أشهر بشأن علاقتنا معًا، أتراجع وأنا أراها تضم شفتيها على شكل قلب وتنطق الكلمات هكذا" موووش أااوز غير أني أعيش جنبك هبيبي "  وأتلذذ بسماع الحروف تخرج من بين شفتيها مبتورة بعض أجزائها..

أحب كلماتها التي لا يفرق معها أن تحذف منها تاء التأنيث عندما تتحدث عن نفسها أو تضيف الكسرة للضمير عند مخاطبتي، فتطرق باب غرفتي وهي تقول "أنتِ هنا هبيبي " ..

وكنت لأول مرة بحياتي أجد من ينجذب لشكلي الذي ينخفض به معدلات الوسامة،  فقامتي القصيرة، وجسدي النحيل، ولون بشرتي الداكن، وشعري المجعد جعل كل من ينظر إليَّ من الفتيات يبتسمن ويملؤون آذاني بكلمات اعتدّت سماعها انتظرها منهم وأرددها بداخلي فأقول معهم في نفس واحد "أنت إنسان طيب ودمك خفيف" .

كانت كل الانطباعات عني أني بطيبة أهل الجنوب وخفة ظلهم، وخلت حياتي من أي خطوة تعبر فوق هذا الشعور المحدود..

فقط أنا خفيف الظل تسعدهم ابتسامتي التي تظهر أسناني البيضاء الناصعة، مرحب بي كزميل عملٍ أو مسلٍ أمتعهم بالحكايات أثناء تناول الفطور معًا، ووقت الأزمات معاون جيد وأقف موقف البطل في الشدائد وصديقٍ وفيٍ وكفى.

قضيت الليلة بجانب النافذة أنظر عبر زجاجها أتأمل اللا شيء، فلا سماء ولا نجوم في هذه المدينة الضبابية، تختلف كل الاختلاف عن بلدي الجنوبي الدافئ دفء مشاعر إيلا..

أحس حرارتها تملأ الكون، النظر بعينيها يحيي بداخلي قصائد شعر تفوق أبياتها أبيات أكثر شعراء العرب مجونًا، حين أنظر لهما يغزوني شعور بحب كل بنات حواء منذ الهبوط.

"آه لو أنني لا أخاف الموت ببلد غريب لبقيت في محرابها دهرًا أتعبد في عينيها أبدًا"

أعرف لها ثلاث درجات ألوان بثلاث حالات، مرة هي صافية مثل سماء بلادي معظم العام، وعند الغروب زرقتها في زرقة كحل أمي، تضعه داخل جفنيها مداوية به عيناها، طالما اعتقدت أن في حرقته الشفاء هذا الاعتقاد الذي عشنا عليه طوال حياتنا فكل شيءٍ مؤلمٍ نرتضيه لأنفسنا إيمانًا منا أن من رحم الألم يولد الرخاء، فطالما سمعت أبي يقول:

 "جد واتعب انهاردة يا ولدي عشان ترتاح بكرة.."

ولقيتني أجد ثم أجد ثم أجد، ولا سبيل لراحة فبعد كلٍ عناءٍ، عناء.

أسمعه ينصح أمي حتى لا تأخذ اللين سبيلًا  في تربيتي، فيقول:

"اقسي عليه خلي عضمه يشد".

وكنت أجد في قسوتها الحنان، وألمس في يدها الخشنة الأمان من ضربات الزمان، وفي عينيها الواسعة السوداء يحددها الكحل الأزرق، بحرٌ ألقى بي موجه العالي على شاطئ تلك المدينة الثلجية وكلما اشتقت أنظر عيون إيلا فأرى فيهما وطني، وأشعر بهما حضن أمي الدافئ وتذوب معهما المسافات فلا أشعر ببعدي عن بلدي الجنوبي.

اسوان

 تغضب فتتقلب عيناها بين الأبيض والأزرق كموج متقلب هائج يبتلع كل سنوات الغربة في مشهدٍ واحدٍ يائسٍ تبكي بعده حتى يأخذها التعب ويغلبها النوم، وأبقى أنا أمام النافذة ترتسم أمام عيني خيالات قريتي تضيء في الأفق وبداخلي يسكن حنين لها ولأمي.

بدأ انحسار تدريجي لليل وبزوغ فجرٍ، ظهرت كتل الثلج غطت الشوارع والسيارات وعلى أسقف البيوت، ويعود النهار وأرى الطلبة في انتظار الحافلة المدرسية يرتدون البلاطي وأغطية الرأس متلفعين بالشيلان الصوفية، يدفئ القفاز أيديهم ويرتشفون المشروبات الساخنة، وتتراقص في اللون الأبيض بيوت قريتي.

أراني صبيًا أسير لمسافة اثنين كيلو حتى أصل مدرستي أنفخ بيدي المرتعشة، أدفأهما، فالبرد في الجنوب قارس في فصل الشتاء، أرتدي الزي الرسمي قمحي بلون خبز أمي بعد خروجه ساخن من الفرن البلدي الموجود بساحة دارنا، كمْ أشتاق إليه مع القشدة وقطعة جبن قديم من الزلعة بسطح الدار..

أرتدي من تحته بلوفر من الصوف، اشتراه لي أبي بأحد الأعياد، ارتديه من الداخل بعد أن قدم وتهالك خيوطه، أتذكر ذلك البلوفر جيدًا استمر معي فترة طويلة تقريبًا هي فترة دراستي بالمرحلة الأساسية من التعليم، فحجمي الضئيل كان سببًا في بقائه كل تلك السنوات حتى اعتقدت أنه يكبر معي.

كلفني المسئول عن الإذاعة بأن أقول كلمة الصباح وأحيي بعدها العلم طوال فترة الدراسة، صوتي العالي ونطقي السليم للغة العربية هما ما رشحوني لتلك المهمة أقوم بها على مدار العام الدراسي.

وينتهي اليوم الدراسي وأعود لداري مسندًا على الجدران من الطين اللين لين قلوب أهلها، أسمع بقبقة الوحل تحت قدمي، تغرز وأنتشلها بصعوبة، وأخيرًا أتحسس بابنا الخشبي أمسك مدقه الحديدي، أطرقه، تفتح لي أمي وتنظر قدماي المحملة بطين أرض قريتي، وتحذرني قائلة:

"مركوبك موحل اخلعه،إوعاك تخطي بيه جوه الدار".

أتركه على عتبة الدار وأسرع لأفتح حقيبتي، من القماش، أضع بها كتبي المدرسية وأوراق جمعتها كانت قراطيس يعبأ بها الحرنكش والطعمية وحب العزيز أمام باب مدرستي، بها أقرأ أبيات شعر لشاعر معروف، ومقالة لكاتب كبير، وقصة قصيرة طمس زيت الطعمية نهايتها، وأعض على شفتي مغتاظًا لذلك.

مسكينة إيلا،..

ظلت تبكي كثيرًا قراري بالعودة لبلدي الجنوبي، دخلت غرفتي لتفاجأ بحقيبة سفري، أعددتها استعدادا للرحيل، اقترحت عليّ أن تأتي معي لكني رفضت، لن تتحمل هي قسوة الحياة بقريتي والتي اعتدت صعوبة الحياة بها منذ صغري، فقد نشأت عليها بل إني أشتاق أيام المطر والوحل، كنت والصبية نتسابق في القفز على قوالب الطوب أمام البيوت ونتفادى الوقوع ببرك المياه ببراعة، ننتظر انقطاع الكهرباء ليلًا فنشعل نار الركية لنلتف حولها ندفئ أنفسنا ونضع عليها براد الشاي من حوله نغرز حبات البطاطا ونعد الدقائق، تنضج ونتسابق في نيل حباتها، نأكل  ونتسامر طوال الليل حتى يغلبنا النوم..

 كان في قسوة الأيام شيء حلو، فرغم كل وسائل الترفيه الحالية، أفتقد القرية ويغلبني الحنين إليها وأتذكرها فأشتاق.

وبورقة بيضاء خطت يدي آخر كلماتي لها:

"كنت لي وطنٍ في سنوات الغربة".

ورَحَلْت دون وداع، ها أنا على مشارف الوصول، أسمع دوشة الميناء تخالط صوت خفقان محرك السفينة التي أوشكت على الوقوف.

"انتهت"

بقلم / فاطمة حمزة 

اضف تعليق

أحدث أقدم