الإسلام السعودي الإنجليزي قصة الحاج عبد الله فيلبي

كتبت - أنوار جودة :
الإسلام الإنجليزي السعودي
إنها قصة الحاج عبد الله فيلبي من وثائق المخابرات البريطانية 1929 ـ 1948 
  • إنجليزي قادته روح المغامرة إلى جدة ..
  • رشح الملك عبد العزيز لتوحيد السعودية فوصفه اللورد كيرزون بالجنون
  • لندن ابتعثت فيلبي إلى الملك عبد العزيز لإثنائه عن غزو الحجاز فقدم استقالته من خيمته

فليبي
افرج مكتب السجلات العامة والارشيف القومي ببريطانيا صباح الخميس 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2005، ولأول مرة عن 311 ملفا عن العملاء والنشاط الاستخباراتي، كان مقررا الافراج عنها عام 2005. بين تلك الملفات، ملفان بالرقمين KV/2/1118 وKV/2/1119  عن هاري سانت جون بروجر فيلبي، الذي أصبح الحاج عبد الله فيلبي بعد اعتناقه الاسلام.

 وفي الملفين 236 وثيقة، يقود مجمل قراءتها إلى الوقوف امام شخصية خلافية ودرامية في ذات الوقت. رجل يستقيل من الخدمة المدنية الهندية ليدخل المنطقة العربية، ثم يعتنق الاسلام ويصبح مقربا من الملك عبد العزيز وتدور به الدائرة ليقول له الملك «أنت كذاب». ورجل يجادل حكومته البريطانية بأن الملك عبد العزيز هو الوحيد القادر على توحيد السعودية خلافا لترشيحات لورنس العرب، فيقول له اللورد كيرزون عضو مجلس الحرب «أنت مجنون يا فيلبي..». رجل يسوح بهويته البريطانية في محمية عدن فيثير غضب ملك اليمن ويضطر إلى مراسلة الملك عبد العزيز في شأنه. وفيلبي كاتب بارع، وهو الوحيد الذي عبر السعودية من البحر إلى البحر عام 1917 دون ان يحس به احد فألف كتابه «قلب السعودية» مثلما اوحى له التجوال في عدن وحضرموت بتأليف كتاب آخر اسماه «اخوات سبأ». 

وفيلبي سياسي قاد في مراسلات حية وساخنة من منزله في جدة لتغيير مواقف حكومة العمال من فكرة توحي بتقسيم السعودية واحتضان معارضين للملك عبد العزيز، ومع ذلك قبض في النهاية، وبسبب مواقفه من الحرب العالمية، الثمن اتهامات تصفه بالأنهزامية، وعدم الولاء، ليتم التجسس عليه وعلى حركته واعتقاله.. ومن بعد فلفيلبي مواقفه الواضحة من القضية الفلسطينية، وعنها كتب. «الشرق الأوسط» تقطع بان التنقل بين اوراق المخابرات البريطانية حول فيلبي، يقترب من الجلوس إلى فيلم سينمائي عالي الجودة.. مثلما تقطع بصعوبة عرض جميع هذه الوثائق انطلاقا من صعوبة اتخاذ منهج يعتمد على التاريخ فقط في عرضها. ولذلك اتخذت هذا المنهج الذي يتنقل، كما طريقة الدراما السينمائية او التلفزيونية، بحرية تحاول ايجاد الرباط، ما امكن، داخل كل حلقة من هذه الحلقات، مع الاحتفاظ بخيط يربط بينها جميعا، ومن هنا ذهب التقرير إلى ان تكون بداية هذه الحلقات للروائي البريطاني والرحالة وليام جي. ماكين، ليحدثنا عن فيلبي لتكون الحلقة الثانية عن تقييم الداخلية والخارجية البريطانيتين لفيلبي، علّ ذلك يفتح العدسة على اغوار شخصية بالغة التعقيد، دعك عن اسهامها الفاعل في حركة تاريخ الدول العربية بالشرق الاوسط في زمن كأنت فيه تلك الدول تقاوم استعمار دولة فيلبي، اي بريطانيا العظمى. 

رجل دائم الاختفاء :

 كتب الروائي وليام ماكين يوم الجمعة 11 مارس (آذار) 1932: تداعت الاخبار لجهة قصة حافلة بالرومانسية المثيرة والمغامرة، وتقول ان سانت جون فيلبي، الرحالة العظيم والمستشار المالي لابن سعود العاهل العربي، قد اختفى منذ 2 يناير (كانون الثاني). غادر جدة، مقره وداره على البحر الاحمر، في ذلك اليوم مع 15 رجلا وبعض الجمال لجهة رحلة للمتعة من المقرر لها ان تنتهي في منتصف فبراير (شباط). ويعتزم ابن سعود ارسال فرقة للبحث عنه في الصحراء. فيما يلي، قصة الانجليزي، موظف الخدمة المدنية، الذي اعتنق الاسلام والقى بثقله خلف الملك العربي ابن سعود، كما رواها عنه احد الذين التقوه في جدة. سيقول لك فيلبي أنه يعيش على بيع لعب الاطفال على حافة صحراء عربية. هذا شيء خيالي، ولكن كل شيء يفعله فيلبي في نهاية المطاف، يبدو خياليا وغريبا ايضا. يتوقف فيلبي من فترة لاخرى عن تجارته القائمة على بيع لعب الاطفال او العربات رخيصة الثمن للكبار ليختفي في الصحراء. هو دائما في حالة اختفاء. والآن جاءت رسالة من القاهرة تقول ان القلق يصاحب سيرة الرجل، لأنه اختفى مرة اخرى. حينما كنت اقوم برحلة بحرية مؤخرا في البحر الاحمر على متن احدى البواخر غير النظامية، سمعت الكثير عن هذا الرجل الانجليزي الغامض. يقول عامل برقيات في بورتسودان: «هو رجل يعرف عن السعودية اكثر من اي انسان على قيد الحياة. وهو بمثابة الساعد الايمن لابن سعود ملك الحجاز. ولا توجد لهجة في السعودية لا يتحدثها مثله مثل اي عربي من مواليد البلد، وقد اعتنق الاسلام مؤخرا». اوصاف مختصرة مثل هذه لا تعدو كونها مشهيات عن هذا الرجل الانجليزي الغامض. وقد اتى اليوم الذي حملني فيه مركب شراعي سعودي، وابحر في شواطئ جدة، ميناء الحجاج، ووضعني على الشاطئ وسط جمع من العرب بنظراتهم المفترسة. تقدمني مجموعة عرب مسلحين وضباط من قوات ابن سعود في ملابسهم ذات اللون (الكاكي). فحصوا كل اوراقي الثبوتية في هدوء إلى ان وصلت الاوراق ليد سمراء ادارت قرص الهاتف وحملت سماعة التلفون. فقال صاحبها لطرف آخر: «اوصلني بمكة..» قالها بالعربية. عرفت أنه يتحدث إلى قصر ابن سعود في مكة التي تبعد عن جدة بعدة اميال. فشرع وفي دقائق قليلة بتقديم اوصاف لي لاحد المسؤولين عبر خط هاتفي صحراوي. تلك كأنت السعودية على تلك الايام. وفي حوالي عشر دقائق أنتهت كل المحنة.

 حراس من القردة

قالوا  لي بعدها: يمكنك دخول المدينة ولكن ليس ما بعد جبل حواء. قدمت شكري للضابط وتركت المكتب احمل معي ارقاما تمكن من التحدث اليه ووجدت نفسي في الشارع اتنفس تحت شمس جدة المتوهجة. وخلال ساعة كنت قد وجدت المنزل الذي ابحث عنه، اعني منزل الرجل الانجليزي الغامض، المستر سأنت جون فيلبي. دخلته بشجاعة، مررت عبر ممر مظلم أنتهى بي إلى فناء الدار المشمس. هناك رأيت اول ما رأيت اربعة قرود حبشية ضخمة تجلس القرفصاء، ادارت عيونها المفترسة ووجوهها المشعرة نحوي، ظلت جالسة ساكنة تماما، وتوقفت في حالة شعور بالارتعاش. ورغم ان القردة كأنت مكتوفة بالسلاسل، الا أنها تحمل قدرا منها يمكنها من القفز للامام. 
تقدمت خطوة للامام، فتقدمت القردة الاربعة للامام، وفجأة انفجرت جميعها في اثارة جلبة، وكنت على وشك ادارة ظهري للمنزل والتفكير في الهروب حتى فاجأني صوت تحدث بالانجليزية: 

«لا تخف منهم، فهم حراس جيدون، ويطيعوني». وكان ان تبع الملاحظة بأوامر باللغة العربية، فاستكأنت القردة كضأن وديع، ومضى الصوت ليقول: «ادخل ودعنا نتناول مشروبا»
فليبي

 اعرف من القادم :

 عبرت فناء الدار، لأجد على احد ممراته الرجل الذي اختفى، طويلا ونحيفا، بلحية تحمل سوادا خفيفا، يعطيك انطباع كما لو أنه احد الشياطين السبعة الرئيسيين بلونهم الاسود في الاساطير الاغريقية، مثل ذلك الخيال في تصوره بهذا الشكل، يشارك في الايحاء به إليك الزي العربي الأبيض الذي ارتداه. والشاهد أنه تقدمني إلى غرفة ضخمة. قال: «سمعت بوصولك لجدة، أنت قادم من اثيوبيا، أليس كذلك..؟». أنتقل من السؤال إلى التصفيق بيديه ليدخل خادم عربي.. فوجهه بتحضير مشروبات. اومأت برأسي اشارة للقبول. بدأت من التحقق بأنه لا توجد او لا مجال للاسرار امام هذا الرجل الغامض، فهو يعرف كل شيء عن اي غريب يضع اقدامه على ارض جدة. يبدو ان مهمته ان يعرف ذلك. سألته: «هل الفرنسيون على حق بتسميتك صانع الملوك يا مستر فيلبي»؟ اسقط في الحال وجهه الشاحب وانفجر في ضحكة، هي ضحكة شيطانية.. قال بعدها: «انا تاجر.. ابيع العربات كما تعرف، وبعض المحاريث.. ولعب الاطفال..»، قلت: «والتجارة ناجحة؟..». قال: «ليست سيئة.. ليس بوسع احد ان ينال حظوظه هنا». قلت: «أليس هناك رجال عديدون اغنياء هنا.. ابن سعود على سبيل المثال..»؟ هز رأسه.. (تبدو الاشارة للنفي اعتمادا على ملاحظة الراوي القادمة ـ الاشارة من الشرق الاوسط..)! قلت: «السياسة وحدها التي تكسب، هكذا قالوا لي في اميركا.. من في اعتقادك هم الاكثر ثراء في السعودية»؟ 

خلال تلك الساعات القليلة في حضرة فيلبي في ذلك القصر بجدة، بدأت في اكتشاف شيء في التاريخ المحير والمغامرات المدهشة للرجل الانجليزي ذي الـ46 عاما. اختتم الحديث بالقول، اي فيلبي: «لقد امضيت 15 عاما في الصحراء.. 15 عاما من الوحدة..».

في الخدمة المدنية الهندية 

ظل تاريخ ومستقبل هنري سأنت جورج بردجر فيلبي، ومنذ اللحظة التي رأت فيها عيونه النور في فيلا والده في بادولاس بسيلان غير عادي، فوالده مزارع شاي في عداد الاغنياء. ارسله والده للتعليم في انجلترا فتنقل بين وستمنستر وكلية ترنتي وكمبردج، ظل خلالها استاذا ذكيا بقيم كلاسيكية، اظهر مبكرا قابلية ونزوعا نحو اللغات، وكان من الطبيعي ان يلتحق بخدمة كأنت تعني الكثير للشباب في ايامه، اي الخدمة الهندية، فظهر اسمه رقم 50 في قائمة جيدة اعدت خصيصا. وجد نفسه بعدها في الهند يتعامل مع اعباء موظف الخدمة المدنية العادية بمميزات هي من نسيج شخصيته، مزجها بالعنصر المحلي، فجاءت الاشارة إلى ترقيته، وحين انفجرت الحرب العالمية الاولى عام 1914 كان فيلبي قد اصبح سكرتيرا لحاكم البنغال بمقره في كلكتا، ليجيء بعدها اختفاؤه الغامض والاول. قيل وقتها أنه فقد نفسه بين اسواق بغداد واسواق طهران في حدود واسعة بين البلدين. كان الجنرال تاونشيند وكوكبة من الضباط البريطانيين غارقين في موقف مأزوم ضد الاتراك. وحين ظهر سأنت جون فيلبي، كان ضابطا نشطا وانيقا في قاعدة للقوات البريطانية معنيا بالجانب الاقتصادي في وحدة المخابرات، ولذلك، فقد كان على معظم الجواسيس الذين استخدمتهم بريطانيا من ذلك المعسكر ان يمروا بعمليات التدقيق المتوهج لعيون فيلبي الزرقاء والحديدية. ومرة اخرى، اختفى فيلبي من القاعدة مرتين، كان فيهما يتنكر في الطرق الفرعية ببغداد في زي شحاذ عربي

ضد اثنين من الالمان :

في تلك الاثناء، كان اثنان من الالمان الاذكياء يعنيان الكثير للقوات البريطانية، الاول هو المشهور «واسماس» الذي تعامل مع عصبة من مقاتلي حرب العصابات عبر منطقة بلاد فارس في عمليات انقضاض مستمرة على حقول النفط، وبشكل عام، لارباك خطوط الاتصالات البريطانية بين الهند وتلك المنطقة. اما الالماني الآخر فهو بريزر الذي يقال عنه أنه سيد الخليج العربي. فكان على سأنت جون فيلبي ان يراهن بعقله ضد هذين الرجلين الذكيين. 
عبد الله فليبي
وكانت النتيجة امرا لا مفر منه، فقد مات بريزر مطعونا بخنجر من اعرابي فيما وجد واسماس نفسه محاطا عن قرب بعصبة في ايران، وتمكن من الهرب في جنح الظلام إلى سقف الدنيا، اي آسيا الوسطى، فلجأ هناك في احدى دولها، وحين أنتهت مهمة فيلبي، اختفى مرة ثانية. اشار الكولونيل لورنس إلى اسم فيلبي باختصار في كتابه، وقد حدث اللقاء غير المتوقع في الصحراء، فقد عبر سأنت جون فيلبي خريطة السعودية البيضاء من الخليج العربي إلى البحر الاحمر دون ان يلاحظ احد هذه الرحلة او الحقيقة. كان لورنس مشغولا مع الامير فيصل، الرجل الذي اعتقد لورنس أنه الملك الوحيد المحتمل لسعودية موحدة فيما اشار فيلبي إلى عبد العزيز بن سعود الذي كثيرا ما سافر معه في الصحراء. وقد ظل فيلبي على قناعة بان هذا، الزعيم، المؤمن بنصوص القرآن، والذي يشمئز من التدخين، ومن قيم العصر المنحلة، مقدر له ان يدخل مكة كفاتح منتصر في رفقة مقاتليه. < أنت رجل مجنون < ظهر سأنت جون فيلبي بعدها في فندق في لندن، وقد قصد هذه المرة ان يضع حقائبه امام مجلس الحرب، وبعد أنتظار طويل تحددت له مقابلة مع اللورد كيرزون، فدافع مرة اخرى عن قضية ابن سعود فيما ظل اللورد كيرزون يستمع على مضض، إلى ان نفد صبره ولم يستطع السيطرة على نفسه فقال: «أنت رجل مجنون يا فيلبي!». ابتسم فيلبي، وغادر الاجتماع ليجلس في غرفته بفندقه مع زجاجة بيرغندي، وبعد ساعات قليلة تسلمت وزارة الخارجية رسائل عاجلة من السعودية تقول ان ابن سعود يزحف في السعودية مثل لهب ثائر، فكان استدعاء سانت جون فيلبي لوزارة الخارجية، وتحدث معه اللورد كيرزون مرة ثانية، وحين غادر فيلبي الوزارة اتجه للفندق ولساعة واحدة، ليختفي مرة اخرى، ليعيد ظهوره مرة اخرى ايضا، ولكن في معسكر ابن سعود وبين مقاتليه بملابسهم السوداء، ولكن الظهور هذه المرة تلبّس كونه مبعوثا بريطانيا ذا سطوة ونفوذ، وليقدم بالنيابة عن بلاده منحة حكومية لابن سعود قدرها 60.000 جنيه استرليني، وكأنت كل طلبات بريطانيا السلام والهدوء من الزعيم الجديد (ابن سعود).. (الايضاح من «الشرق الأوسط)
بعدها، ظل فيلبي يتلقى تكريما متعددا، تسلم في 1920 ميدالية الشرف من الجمعية الجغرافية الملكية، ثم أنتخب عضوا بمجلس الجمعية الاسلامية الملكية. في 1921، عاد إلى بغداد لوظيفة هامة هي المستشار لوزارة الداخلية. من 1922 إلى 1924 اصبح ممثل بريطانيا بالاردن، وهنا كان قد وصل إلى قمة طموحات الخدمة المدنية.

واخيرا استقالته  :

 ثم جاءت الحرب العالمية الثانية في قلب السعودية، فتجاهل ابن سعود التحذيرات البريطانية واحتل مكة زاحفا عبر الصحراء، فقررت وزارة الخارجية البريطانية ان الشخص الوحيد المؤهل للتعامل مع الوضع هو سانت جون فيلبي، فاتجه فيلبي بالفعل في رحلة سريعة من الاردن إلى معسكر ابن سعود، وهناك تحدث إلى ابن سعود، ولا يعرف ما حدث في خيمة ابن سعود، في مقابل ذلك، فكل الذي عرف هو ان سانت جون فيلبي خرج ليبرق استقالته إلى لندن، استقالة من كل مواقعه ومكاتبه، ترقياته وكل شيء، ليصبح تاجرا عاديا في جدة يبيع العربات والبضائع العامة. عينه الملك ابن سعود لاحقا مستشارا ماليا، ووضع له قصرا بجدة تحت تصرفه، ويزور فيلبي مكة كثيرا، ويبدو موقعه في مقاطعة الحجاز، ولكونه مسلما، آمنا، وهو من بعد لا يزال يمارس اعماله كتاجر. ربما يكون هذا العمل بالنسبة له مضجرا لأنه اختفى في قلب الصحراء مرة اخرى، فهل يظهر ثانية..؟.
philiby

أنتهى مقال وليام ماكين

اضف تعليق

أحدث أقدم