وتمضي الحياة قصة قصيرة بقلم أحمد الأسيوطي

وتمضي الحياة , قصة قصيرة - أحمد الأسيوطي :
سألته " ماذا تفعل عندك !؟"
سألته " ماذا تفعل عندك !!؟ "
- رد باسما : " بكتب ع اوراق الشجر " ثم ضحكا في الوقت نفسه
قالت : لا تتأخر كعادتك .. فاليوم يومك يا " باشمهندس " قالتها باسمة ..
قال : ستجديني دائما هنا يا " دكتورة " عند ..
قاطعته قائلا : عند شجرة الليمون . ثم بادلته الابتسامة وغادرت.

جدو
أزاح المقعد البلاستيكي بعيدا وافترش الارض مادا ساقيه مسندا ظهره إلى الشجرة عاقدا ذراعية خلف رأسه .. ثم حلق ببصره نحو السماء ..
اليوم يكمل عامه الستون , تمر السنون سريعا وتتحول الايام إلى ذكريات .. هذه السماء هي نفسها منذ ستون عاما , هذه الارض , هذا الهواء , نمضي نحن وتبقى الدنيا كأنما العمر قطار ولكنه قطار يذهب ولا يعود ..و لا تمر لحظة دون ان ينزل راكب ليأخذ مكانه راكب جديد ..

" اوه .. يا بن ال ... " كانت كرة بلاستيكية قد ارتطمت به فأمسك بها وإلتفت حوله ناحية صوت ضحكة طفولية مكتومة

كان " ميدو " حفيده يضع يده على فمه يحاول ان يكتم ضحكته المتسربة من فمه حين رأى جده يفزع من الكرة حين أرتطمت به .. ثم وقف بنظرة مترقبة ينتظر أن يعيد إليه جده تلك الكرة ..
نظر الى حفيده بنظرة تحولت في ثوان من ضيق وضجر الى حنو بالغ ..
" كم يشبهني هذا الولد , جبهته العريضة , انفه المدبب , شفتاه الصغيرتان , عيناه الضيقتان المشاغبتان .. هذا الذي سيخلفني في مقعدي بقطار العمر .."

أشار إليه فلباه الطفل مندفعا حتى أرتطم به هو أيضا فأعتدل في جلسته وأحاطه بذراعه الفارغة فيما كانت الأخرى لا تزال ممسكة بالكرة ..
- كل عام وانت بخير يا " ميدو "

- كل عام وانت بخير يا " جدو "

- انه عيد ميلادك اليوم يا " ميدو "
- نعم وعيدك ايضا يا " جدو "
- انت تشبهني في كل شئ
- ولكنك أكبر يا " جدو "
- ضحك قائلا : انت ايضا سيمضي بك قطار العمر وتكبر
- وماذا يعني أن تصبح كبيرا ؟
- صمت قليلا ثم قال : انه يعني ان يصبح عندك كثير من الحكايات  !
- اليوم سأكل كثير من الحلوى !
- تبسم قائلا : اما انا فلن استطيع أن آكل الحلوى
- لماذا ؟!!
- صمت ثم قال : لأني اكلت كثير من الحلوى حتى اصبح دمي مسكرا !!
- امي تقول " جدو عنده سكر " اريد ان يكون عندي سكر يا جدي
- مسح على رأس حفيده وقال : الحلوى عندما تكون في " الثلاجة " تكون جميلة وباردة , أليس كذلك ؟
- نعم .. اذن سأحتفظ بها في " الثلاجة "

- اذهب الان امامنا نصف ساعة تقريبا قبل ان يبدأ احتفال عيد ميلادنا ..
قالها وهو يربت على ظهره ثم تبسم ورمى إليه بالكرة أمامه ليجعله يهرول بعيدا .. ثم أعاد ظهره الى شجرة الليمون مرة ثانية ومد ساقيه واضعا أحداهما على الآخرى مستسلما لتلك الذكرى التي أطلت في رأسه ..
- " هذا الولد ابن موت " قالت امه

- " بعد الشر .. لا تقولي ذلك " نهرتها جدته

- " انه لا يكاد يفيق من اصابة حتى تلحقه أخرى "
- " قبلنا قالوا عمر الشقي بقي "
- " لقد طلب الطبيب أيضا إجراء تحليل سكر "
- " لا أحد يموت ناقص عمر " هكذا كانت تقول جدته ..وها هو كبر وتزوج وانجب وتزوجت أبنته وصار جدا لحفيد يكاد يشبهه  !!

مسح عبرات سالت من عينيه دون إرادة وتمتم مترحما على جدته ..معيدا على نفسه كلمتها التي حفظها عن ظهر قلب " لا أحد يموت ناقص عمر " , تذكر وجه ابنته فرحة مستبشرة :
- بابا ..الحمد لله يا بابا الطبيب قال أن ميدو ليس عنده سكر "
ضحك وقال : ربنا كبير يا بنتي انا قلت ليس من المعقول أن هذا الولد يشبهني في كل شئ يكفيه ملامحي ويوم ميلادي " ..!!
عادت الكرة لترتطم به مره اخرى فتستعيده من ذكرياته ..
امسك الكرة ونظر إلى حفيده ثم أطلق تنهيدة عميقة وعاد ورمى بالكرة نحو " ميدو " الذي اخذها وأختفى ..
أعاد ظهره إلى الشجرة من جديد مستنشقا رائحة الليمون سابحا في ذكرياته ..

- " اشرب ليمون كتير " قالت الطبيبة

- " لا أحب الليمون "
- " لا استطيع أن اصف لك ادوية كيميائية وانت مريض سكر قد تحدث لك مضاعفات " قالتها محدقة به في حزم واصرار غير كافيين بسبب ملامحها المشرقة وإبتسامتها الرقيقة 
- كانت رقيقة في كل شيء , انفها صغير يشبه بذر الليمون رائحتها تشبه رائحة الليمون
فنظر إلى عينيها مباشرة بطريقة جعلتها هي أيضا تنظر إلى عينيه نظرة ثابتة وبعد صمت قصير قال :
- تزوجيني"
- قطبت احدى حاجبيها ورفعته في مستوى أعلى من الاخر وقد أمالت رأسها قليلا وظلت تحدق في عينيه  !
- أنتِ مرتبطة ؟
- لأ
- تزوجيني اذن .

رمقته ببسمة خفيفة لم يستطع فهم معناها وتركته ..ولكنها حين استدارت ونظرت نحوه مرة أخرى ..فهم ما ينبغي عليه فهمه !!
مرة اخرى ترتطم به الكرة فتناولها هذه المرة وهو يصيح نحو حفيده : صدقني لم اكن مشاغبا إلى هذه الدرجة .. حطمت " مرايا " حطمت " زجاجات " حطمت اواني واكواب العصير الثمينة .. حتى ذلك " النيش " لم يسلم من ركلي بالكرة .. لكن لم ترتطم مني أبدا بأبي !
قال تلك العبارة الأخيرة وهو يعلم في نفسه أنه كاذب !
- نكس الطفل رأسه آسفا ثم رفعها بعينين متوسلتين أن يعيد له جده الكرة الذي ألقاها إليه وهو يهدده أنه لن يعيدها إذا ولو مرت بجواره دون إرتطام , فألتقطها "ميدو " وهو يقول : آخر مرة يا " جدو" هي دقيقة واحدة فقط وسأدخل للمنزل فأمي وجدتي انتهتا من وضع " التورته " والحلوى ..
ألقى بظهره إلى الشجرة ولكن هذه المرة يبدو أنه فعلها بقوة لأنه أصدر تأوه جعله يغمض عينيه  من الألم ثم سكن ..

- هل تشعر بالالم يا أبي

- لا يا ابني خلاص لم أعد اشعر بشئ
- هل خف الوجع الذي في ظهرك ؟
- احس أن جسمي كله خف !!
- طيب . الحمد لله . حاول ان تنم انت من ثلاثة ايام لم تنم ولم تأكل !!
- انا سامع صوت جدتك يظهر جاءت تسلم عليَ
- استنكر ذلك قال : جدتي !!
- نعم .جدتك يا " واد "

كانت جدته قد توفيت منذ سنوات كما انه لأول مرة يناديه " يا واد " منذ إلتحق بالسنة الاولى من كلية الزراعة ..فنظر إلى أبيه وقال :
- نفسك في شئ يا "ابويا" ؟!

- لا يا بني .. وسع وسع دع جدتك تدخل ..
فتح عينيه فجأة ونظر حوله ,أين ذهب الطفل؟!! أعياه البحث وأتعبه النظر , تحسس جيوبه , لقد نسي حقنة الأنسولين كعادته ..وحين أراد أن يعيد ظهره مرة أخرى للشجرة شعر بالألم من جديد ففكر أن ينام على ظهره فهذه الحركة تخفف آلام العمود الفقري ..
ظهر ميدو من جديد , ظل يركل الكرة لأعلى مرات ومرات وهي لا تسقط , نادى جده , "جدي أنظر كيف أستطيع الأحتفاظ بالكرة دون أن تسقط" .. لكن الطفل سمع جده يقول: " ابويا !! أتيت بنفسك لتسلم عليَ .. لقد كنت قادما إليك"
حملق الطفل نحو جده ظنا منه أن شخصا ما يجلس معه ويحاوره ,وإذ بالكرة توشك أن تسقط على الأرض بعدما غفل عنها فقام بسرعة خاطفة وركلها ركلة قوية وإذا بها مرة اخرى تطير وتسقط عند رأس جده , فوضع كفيه على فمه هذه المرة فزعا فقد تذكر تهديد جده ألا يعيد له الكرة فأطرق رأسه آسفا مختلسا النظر يترقب أن يعتدل جده ويسامحه مثل كل مرة ويعيد له الكرة ..
انتظر الطفل جده .. انتظر .. وانتظر .. وانتظر ... وفي الثانية والاربعين من عمره أصيب بداء السكر

كرة قدم

--
بقلم أحمد الأسيوطي

اضف تعليق

أحدث أقدم