من هي عائشة الباعونية
في زمنٍ كان فيه الأدب والعلم حِكرًا على الرجال، بزغت شمسُ عالمة وشاعرة لم تكتفِ بكسر القواعد، بل حلّقت في آفاق الروحانية، إنها السيدة عائشة الباعونية (ت. 922 هـ).
واسمها الكامل عائشة بنت يوسف بن أحمد بن ناصر الباعوني نسبة إلى قرية باعون بمنطقة عجلون الأردنية . ولكن الكثيرين يرجحون أنها دمشقية المولد والوفاة حيث توفيت بالصالحية في دمشق وفيها دفنت.
لم تكن هذه المرأة الدمشقية مجرد فقيهة وشاعرة، بل كانت صوفية عاشت تجربة العشق الإلهي بكل ما فيه من تجلٍ وفناء، وهو ما جعل لشعرها مذاقًا فريدًا يختلف عن كل ما سبقها.
لم يكن تصوّف عائشة الباعونية مجرد تقليد أو محاكاة لما كتبه ابن الفارض أو غيره، بل كان نابعًا من تجربة شخصية عميقة.
فقد تربّت في بيئة علمية صوفية، وتتلمذت على يد كبار الصوفية في عصرها، فكانت كتاباتها مرآة صافية تعكس رحلتها الروحية من "العشق المجازي" إلى "العشق الحقيقي" الذي يربطها بالخالق.
تجليات العشق الإلهي في قصائدها
يظهر الجانب الصوفي في شعر الباعونية بوضوح عبر عدة محاور:
1. الفناء في المحبوب:
يُعد الفناء في ذات الله من أسمى مراتب التصوف، وقد عبّرت عنه الباعونية بطريقة فريدة، حيث تذوب هويتها لتتحد بهوية المحبوب. في قصيدتها "البدائع" تقول:
"تَفَرَّقَتِ الأَسْمَاءُ وَالذَّاتُ وَاحِدٌ ... وَتَشَتَّتَتِ الأَسْرَارُ وَالْجَزْمُ عَامُّ"
هذا البيت يجسّد حالة الفناء، حيث تتلاشى كل الفروقات الشكلية وتبقى الحقيقة الواحدة، حقيقة العشق الإلهي الذي يوحّد الوجود كله.
2. الحوار المباشر مع الذات الإلهية:
بخلاف معظم الشعر الديني الذي يصف العلاقة من الخارج، فإن شعر عائشة الباعونية يتسم بالحوار المباشر والشخصي مع الخالق. إنها لا تتوسل أو تطلب، بل تتحدث إلى حبيبها الإلهي بنداءات مليئة بالشوق والوجد. تقول في إحدى قصائدها:
"أَيَا نَاظِرَ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ سِرّ ... وَيَا نَفْسَ رُوحِي وَيَا كُلِّيَ"
هذا النداء ليس نداءً عاديًا، بل هو نداء من محبٍ لمحبوب، يرى فيه كل الوجود، وهو ما يعكس عمق التجربة الصوفية التي تجاوزت حدود المادة.
3. الرمزية الصوفية:
استخدمت عائشة الباعونية الرموز الصوفية التقليدية مثل "الخمر"، "القدح"، و"الكأس" للتعبير عن نشوة الحب الإلهي، لكنها أعطتها روحًا جديدة. فـ"خمرها" ليس إلا تجربة العشق التي تُسكر الروح وتأخذها إلى عالم آخر من الصفاء والجمال. إنها ترتقي بالكلمات من معناها الحسي إلى مدلولها الروحي.
لماذا يُعد شعرها الصوفي مهمًا؟
تكمن أهمية شعر عائشة الباعونية في كونه:
دليلًا على نبوغ امرأة: في عصر كان فيه صوت المرأة نادرًا في المحافل العلمية والأدبية، برزت عائشة الباعونية لتثبت أن العقل والقلب لا يعرفان جنسًا.
إثراءً للأدب الصوفي: أضافت لمسة أنثوية فريدة على الأدب الصوفي، حيث كانت المشاعر فيها أكثر صدقًا وتجردًا.
بوابة لفهم التصوف: يمكن اعتبار شعرها الصوفي بمثابة دليل عملي لفهم العشق الإلهي، فهو ليس مجرد نظرية، بل تجربة عاشتها روحٌ عاشقة.
إن شعر عائشة الباعونية ليس مجرد كلمات تُقرأ، بل هو نافذة تطل على عالم روحي عميق، يفوح منه عبير العشق الإلهي الذي يملأ القلب سكينة وسلامًا. هو دعوة لنا جميعًا لنبحث عن مذاق هذا العشق في حياتنا، ونستلهم من هذه العالمة والشاعرة كيف يمكن للإيمان والجمال أن يتوحدا في آن واحد.