في الساعة الثانية ظهرا , قصة قصيرة بقلم تهجد شرف الدين

ابداعات -القصة القصيرة -تهجد شرف الدين  :
-الثانية ظهراً :
أمسكت حافة فستانها البندقي بإحدى يديها وحذائها بيدها الاخرى، ثم ركضت بخفة وحذر إعتادت عليها؛ تسللت بخطوات مدروسة وهيكلة محسوبة ورشاقة متزنة حتى وصلت إلى وجهتها التي لم تأخذ منها غير خمس عشرة دقيقة, سحبت حجابها لتغطي ما تمرد من سبائب ذهبية ناعمة ثم أخذت أنفاسها المتقطعة بقوة تُظهر اعتياد الأشجار لهذه الكمية من ثاني اكسيد الكربون ..

جلست تحت شجرة السنديان العتيقة ثم أخرجت وريقات مستقلة من حقيبتها التي شارف عمرها أن يصل لعمر هذه الشجرة ،كيف لا وقد كانت لوالدتها فهو الشيء الوحيد الذي اغتنته بعدما فقدت عائلتها !

بدت وكأنها تراجع ما كُتب بالأوراق بتركيز شديد حين من الزمن ثم ترفع عينيها العسليتين تراقب تلك الباحة الخضراء حين آخر بتحسب ذئبٍ ينوي اصطياد فريسته .. نظرت للساعة أعلى البرج خلفها ؛ إنها تقترب من الثانية والنصف ! إلتفتت بتبسم نحو الاتجاه المعهود لتراه يركض متسللاً يحمل اوراق مستقلة كخاصتها , بادلته السلام ثم قالت بحماس :

- قرأتها كلها ،كاد الوقت يداهمني لدرجة أنني خفت أن لا أستطيع إكمالها ، ولكن هذه المرة الحماس من أصر أن يكمل .. 
أرجع شعره الأسود بعنفوان ،ثم ضيق كلتا عينيه وابتسم ابتسامة تفاخر متصنعة :
- أعلم ذلك فأنا كاتب ماهر لا يستطيع أحد مقاومة اعمالي
- توقف عن هذا وأخبرني لما هذه المرة النهاية حزينة
- وكيف كنتي تريدينها اذاً ! أظنها هكذا اقرب للواقع
- لا غير صحيح ؛ الأقدار بيد عادل كريم ورحيم ! أنت لا تعلم كيف يهيئ الأحداث ويجعل العواقب البسيطة لمنع أحداث جلل ومن ثم تأتي السعادة بالتعويض بعد قضاء المنع وتصبح النهاية السعيدة ..
 كان يصغي لكلماتها البسيطة بتركيز عميق كما عهد دائماً فهو يدرك لرأيها السديد الذي لطالما اخذ به ورسا براً
- ما سر هذا الاعتقاد ؟ ألم تري أن معظم البشر يعيشون حياة سيئة وتنتهي بنهايات مأساوية ؟
 - أظن أن هناك نقطة خفية يبدو أنك لا تدركها ! أتدري يا يزن حياتنا كمن يقود سيارة ..
-كيف هذا يا فتاة ! ماذا تقصدين ؟
- الله سبحانه وتعالى يزودنا بوسيلة السير بالطريق (كسيارة مثلاً)، أي وجودنا بهذه الحياة بما يميز البشر من عقل ومنهاج ..
-ثم ؟
-ثم يتتركك لتختار طريقك ! أنت من تختار طريقك
- وكيف هذا !؟
-إدراكك لنهاية الطريق يساعدك؛ هناك طريق يمكن أن يكون تمهيده أكثر من تعرجاته وعراقيله وفي النهاية خاتمته وخيمة !
- والاخر ؟
- طريق تكثر عراقيلها وتعرجاتها وتعثراتها ولكن خاتمته تسر الناظرين
- ولكن كيف ؟
 -أعلم ما يدور برأسك ؛ هذه العراقيل تسمي الإبتلاءات ! ليعلم الخالق مدى صبرك حتى يعطيك المكافئة التي تستحق ! لا تنظر للأشياء من النقطة السوداء فقط كالفقر والمرض وغيرها، أتعلم ؟ الغنى أيضاً إبتلاء ،جريان المال بيد الإنسان يجر للفساد فهو قادر على جلب الحلال والحرام
-صحيح ذلك، إذاً فعيشنا بمملكة لملكة شمطاء تمنع التدارس والقراءة للفتيات ايضاً إبتلاء!
-اجل ، ولكن أمرها غريب هذه المرأة ! ضحك "يزن" بخفة ثم قال : -تخاف أن تفوقها إحداكن علماً ! ماذا لو كشفت أمرك يا "شوق" حتماً ستقتلك لا محال !
تبسمت شوق قائلة:
-ليست هي فقط ! حتى زوجة عمي لو اكتشفت أمري سألقى ما ألقى ..
سرح يزن قليلاً ثم قال متجنباً النظر إليها كعادته:
- أنتِ قوية جداً !
- ماذا تقصد؟
- أعني أنك فقدتي والديك وشقيقتك الكبرى أنتِ لم تبلغي الثالثة من عمرك، ثم ترعرعتِ بمنزل يكثر شقاءه عن رخاءه، تحملتِ الضرب والكلمات الجارحة من زوجة عمك ، ثم ها أنتِ تتسللين لتقرئي ولو حرفا خفية أنتِ تدركين أن من يعصي القانون تنتظره المقصلة ! ومع كل هذا الترهيب أكملتي كماً هائلاً من الكتب الدينية والسياسية والفلسفة والروايات و حتى القصص القصيرة ! و ها أنتِ ذا تساعدينني بكتاباتي لتفي بوعدك و أنتِ تعلمين أن حصيلتي ف القراءة لا تضاهي ربع ما قرأته ؟ عجباً ! ما سرك يا فتاة؟

ظهرت ابتسامة خفيفة على مبسمها ثم التفتت خلفها مراقبة الزمن، تنهدت بعمق ثم قالت :
 - أن تسقط ف غياهب الجُب ، أن يتركك الاقربون تباعاً أو دفعة واحدة ، أن تزحف الغيوم السوداء لتعتم سماءك ثم ضباب يسحب نور بصرك متسلسلاً كخيوط أوهن من خيط العنكبوت، أن تتعثر وتميل فتسقط وتسقط ثم تسقط مجدداً إلى أن تصطدم فيوقف تدحرجك ذات الدرج الذي بدأت به نقطة الصفر !، أن ترهن حياتك لوسادة تتحمل مزن فؤادك، أن تعيش كما الحلزون! متقوقع تحتمي بجدرانك تخاف حتى من نسيم المحاولة ! هذا هو الابتلاء الذي حدثتك عنه ، ولكن هيهات كيف لقلبي أن يعتريه حزن وأشد المبتلين أكثرهم قرباً لله !كيف لي أن أَمَّل المحاولة وهو من يعوض الأتعاب بجنان الأعناب! كيف لي أن أضعف من أول تعثر وهو من قال "لا يكلف الله نفسا الا وسعها" أنت لا تعلم مكانة هذه الآية كيف لا وهي مصدر قوتي ! فقدت أشياء كثيرة كما عددتها أنت ! ولكنني لم أفقد إيماني ! إيماني بالله ثم صبري على ما حدث واعتقادي بالأفضل ! جعلني بهذه المكانة التي تراها أنت مميزة ، بينما أنا لن تطيب نفسي حتى ارتقي بها لألقاه ،كم أشتاق النظر لوجهه الكريم ، اللهم عجل اللهم عجل اللهم عجل ....

ثم همت واقفة ولم تنتظر رده ، فأوقفها قائلاً :

 - ليبارك الخالق بعمرك ثم واصل حديثه - أتصرين على قرارك السابق ؟
 -أجل ، لا داعي للقاء مجدداً فقد قرأت كل الكتب التي بمكتبة والدك وأنت أنهيت رواياتك الخمس كما اتفقنا ..
 - حسناً كما تريدين ، سؤال أخير !
-ما هو ؟
-في أول لقاء منذ عامين كنتِ تصرين على أن نلتقي الساعة الثانية فقط لم تخبريني لماذا اخترتي هذا التوقيت بالذات ؟

توقفت لتجيبه ثم ما إن ارادت أن تجيب حتى علا صوت اجراس الساعة المنذرة عن دخول الساعة الثالثة إلتقطتت حقيبتها وهي تقول :
 -لا اعلم ولكن لي ارتباط نفسي مع هذا التوقيت أعتقد أن ما بعده سيكون عاصفة تعيد ترتيب حياتي بطريقة يمكن أن تكون وحشية ونهايتها عظيمة !
-أتقصدين تقلبات حياتك بعد وفاة اهلك ؟

تبسمت ابتسامة ذات معنى ثم قالت :
-كثرت أسئلتك يا هذا ، وداعاً 
-مهلاً مهلاً تبقى آخر شيء ، خذي هذه الاوراق يقال أن عليها دواوين باللغة الأنضولية وجدتها بأحد المكتبات القديمة ، أعلم أنك تفهمينها وتحبينها ..
التقطتها ع عجل ثم أخذت خطوات واثبة تمضي مسرعة ، توقفت على بعد عشرة أمتار من الساعة لترى أنها الثالثة ودقيقتين ثم بدأت تركض بفزع حتى التوت ساقها وسقطت بقوة ، بدأت تتأوه بصوت أقرب للصراخ وما أن رفعت رأسها حتى رأت أحد الحراس الملكيين يرفع إحدى الورقات وعينيه الجاحظتين تتجه نحوها بشراسة..
وتبتسم هي مرددة "الآن سنلتقي أخيراً"
بقلم
تهجد شرف الدين
كاتبة – جمهورية السودان
أحدث أقدم