ندم .. قصة قصيرة بقلم روضة الدخيل

ابداعات - قصص قصيرة - روضة الدخيل تكتب :
أحمل للبحر بحرا من الرّماد،وللأفق ألوان السّواد، وللغد توقا للبعاد...فماذا تحملون أيّها السّادة؟

كم تؤلمني الصّور المشنوقة على أعمدة الذّاكرة! وأنا أراها تتدلّى حين ينبجس الحنين
من جلمود موقف أتهاوى فيه إلى الدّرك الأسفل من الجحيم،فأرى يد أب تحتضن ابنا أو ابنة في شارع أو حديقة أو عند انتهاء يوم دراسيّ.وأنا اليتيمة ووالدي موجود ولكنّه المنفيّ في حكم الغياب.
ندم روضة الدخيل
ففي عالمي لم أعرف سوى لوحات معتمة تعود بي إلى زمن الظّلام الممهور بالجور والعسف والطّغيان...وما وجدت مسوّغا.
في لجّة عميقة من العتمة كان مخبئي،ما إن أسمع صوت المفتاح يدور في قفل الباب طلقات من مسدّس ثمل تخترق أحشاء ذاكرتي ،فأهرع إلى دميتي أحتضنها وأختفي، أضع إصبعي المرتجف على فمي مردّدة بصوت أبكم: الزمي الصّمت ،لقد عاد...

وأغرق في استرجاع صور كنت فيها شاهدة عيان حينا وحينا آخر شاركت بدور ثانوي كمشروع ضحيّة.

حين يعود تقف أمّي بانحناء، ونظرات كسيرة منتظرة تحيّة مساء غالبا ما تكون نظرة انتقاص مصحوبة بفحيح أفعى جائعة تقول بوضوح: عدنا للقرف.

كنت أجلس برفقة أخوتي الصّغار على الأريكة وما إن تقع عيناه علينا حتّى ننهض سريعا وبصوت مرتجف نردّد:تصبحون على خير.
وسرعان ما يغطّ أخوتي في نوم عميق،أمّا أنا فأسمعه وهو يمعن في إذلالها: "أنا السيّد هنا وأنت خادمة في النّهار ومطيّة في اللّيل" ، ولم أكن أفهم معنى هذا الكلام، ولكنّي بغريزتي أدرك أنّه قبيح، آه يا أمّي الجميلة الذّكية المثقّفة! لماذا اخترت هذا الرّجل المتجبّر؟
ولا جواب على أسئلتي الحائرة.

علا صراخه وأمّي بصوت أقرب للهمس:
"أرجوك لا تصرخ، الأولاد نيام سيشعرون بالخوف، ماذا تستفيد وأنت تذلّني بهذه الطّريقة أمام أولادي؟ هذا انتقاص لك وليس لي".

هوى عليها بكفّه الغليظة، ووقعت أرضا وهو يتابع استعراض رجولته ركلا وشتما .
لم استطع تحمّل ما أصابها،أسرعت إليها، فأبعدني بوحشيّة،صرخت في وجهه:كفى
ولكنّه ردّ بصفعة فهربت ودموعي شلالات قهر
سألتها مرّة: لماذا لا تتركينه؟
قالت: وكيف أتركه وأنتم بيننا.أولادي أحبّتي المرأة الذّليلة في بيتها أهون من المرأة المطلّقة في الجتمع.

كبرت وأنا أرى والدي مجرّد مارد أسود خرج من أقبية الظّلام رغم شهادته الجامعيّة.
أخوتي تزوّجوا وأنا رفضت ،لا أريد أن أكون امرأة ملطّخة بعار الأنثى الّتي تموت لتحميأولادها ،لا أريد أن أتدنّس بكفّ ثانية،لا أريد لأمّي أن تصلب مرّتين.

كان صباحا شتويّا غاضبا، سماؤه ملبّدة وأرضه سيول ،وقلبي حزين.
إشعار رسالة من هاتفي "تعالي إلى المشفى..."
أسرعت ،كان ممدّدا جثّة، عيناه تنطقان ببريق غريب رأيته للمرة الأولى...كان نداء خفيّا ما قدرت على تلبيته،جاهد كثيرا فأشار إليّ وأنا ما تحرّكت، دفعتني أمّي نحوه فاقتربت، همس : أعلم أنّك تكرهينني.
لم أردّ عليه
فتابع: سامحيني.
حاولت الابتعاد، أمسكني ،ما زال قويّا...
شعرت بدفء يده. كيف استطعت أن تكون جبّارا طوال عمرك؟
لماذا تمنحني الآن لذّة تجربة حرمتني منها عمرا؟ لماذا لم أعد أراك مشوّها؟
إذا كنت تملك قلبا فلم كان قلبك معطوبا؟
وفرضت علينا عمرا من الحداد.
قاطعني هامسا: سامحيني...
أومأت برأسي، وقبل أن أنطق أغمض عينيه
ولم يفتحهما مجدّدا.
أما أنا فقد أصبحت يتيمة للمرّة الثّانية.
-----
روضة الدّخيل
10/ 3/ 2020

اضف تعليق

أحدث أقدم