إن النظر إلى الأحكام الشرعية في القرآن الكريم دون اعتبار العامل الزمني وانتزاعها من اعتبار الزمان , بل وايضا المكان , هي جريمة نرتكبها ضد القرآن الكريم ذاته وذلك من خلال اكراه نصوصه على التطبيق في ظل ظرف أو عامل زمني مختلف ومتغير بطبعه , بحجة صلاحية تلك الأحكام للتطبيق في كل زمان ومكان
وهي حجة جدلية غير واقعية , إذ ان الواقع وحسبما نصت عليه كتب أدب الفتوى فإن الأحكام متغيره بتغير عامل من ثلاث : المكان , الزمان , الأشخاص .
ولعل .. فكرة ( الناسخ والمنسوخ ) في القرآن الكريم هي تطبيق عملي لتغير الحكم بتغير العوامل التي ذكرناها وأمثلة الناسخ والمنسوخ معروفة وشائعة فنمسك عن ذكرها خشية الاطالة
ولكن قد يحتج البعض بأن النسخ وقع قبل أكتمال الدين , وانه بعد قوله ( اليوم أكملت لكم دينكم ) لا يجوز نسخ او اهدار حكم شرعي ثبت بالقرآن الكريم
وهنا .. نضرب لهؤلاء الأمثلة على وقوع البدل والعدول عن بعض احكام القرآن الكريم لأحكام اخرى بدعوى المصلحة وهي دعوى تعارض دعوى الصلاحية اذ انه المصلحة والصلاحية لا يجب ان يتعارضا , فإن تعارضا , حق لنا ان نتكلم في مدى تلك الصلاحية !!
مثلا :
- قتال ابي بكر الصديق مانعي الزكاة
- منع عمر بن الخطاب اقامة حد السرقة في عام المجاعة
- اقامة السجون وسجن الذين يسعون في الأرض فسادا بدلا من عقوبة النفي ( او ينفوا من الأرض )
- اجازة التطليق بلفظ الثلاث وجعله ثلاث طلقات
- تأجيل او تأخير المهر لأقرب الاجلين الطلاق او الوفاة ( وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) الامر للفور وليس التراخي
- استرقاق الأسرى ( فشدّوا الوثاق )
وبمراجعة هذه الأمثلة فأن العالمين بها يعلمون انها أحكام خولف فيها كتاب الله سبحانه وتعالى لمصلحة او لضعف أو لضرورة , أو حاجة , أو للعرف كما في تأخير المهر إلى بعد وفاة الزوج !! , أو الاتفاق ( المواثيق والاتفاقيات الدولية التي تحرم الرق ) .
( وكان للعرف أثره ايضا في الفتاوى فقد درسنا فيما درسناه في اصول الفقة عن مثل رجل حلف ألا يأكل لحما , فأكل سمكا , فهل عليه كفارة ؟ وكان الجواب ان ليس عليه كفارة لأن العرف لا يعتبر السمك من اللحوم مخالفا بذلك قول الله سبحانه عن طعام البحر " وتستخرجون منه لحما طريا " ).
وهنا نقول :
ان مدى صلاحية الحكم هو بقاء الحال على ما هو عليه فإذا تغير احد عوامله الثلاث ( المكان او الزمان او الاشخاص ) توقف الصلاحية ولا نقول انتهت او عفا عليه الزمن فقد يضرب الارض نيزك يعيدنا إلى العصر الحجري !! وان هذا الايقاف لا يضير النص ولا ينال منه ولو استمر العارض ألف سنة
هب مثلا ان المجاعة او عام الرمادة أو عام القحط الذي ضرب الحجاز في حكم عمر بن الخطاب استمر ألف عام , أكان عمر يقيم الحد عاما ويمنعه عاما ؟!! ام يستمر المنع ساريا طوال استمرار العارض ( القحط )
وتطبيقا لذلك :
- لا سبيل لضرب الزوجة الناشز في المجتمعات المتحضرة وهوما فعله النبي حين قال ( ولن يضرب خياركم ) فالضرب عادة بدوية ( من عادات البادية غير المتحضرة )
- لا سبيل لعقوبة النفي وقد وجدت السجون
- لا سبيل لإسترقاق الأسير وقد اصبح عرفا دوليا
- لا سبيل للغزو ( جهاد الطلب ) ضد دولة تبيح حرية الإعتقاد وقد اصبحت كل الدول كذلك بموجب الاتفاقات الدولية
- لا سبيل لقطع يد السارق اذا لم يكن له معيلا بعد القطع او لا تستطيع الدولة توفير عمل له او اعالته ( يعني اقطع ايده واديله معاش إعالة - يبقى انا كدولة ماذا استفدت من قطعي يده , بل كأني كافئته على السرقة ! )
هذه بعض الأمثلة , والغريب , ان الفقه والفقهاء مارسوا ذلك مع الرسول صلى الله عليه وسلم وبدلوا احكامه لتبدل الواقع .. ولكنهم قصروا في ذلك فيما يتعلق بالأحكام التي مصدرها القرآن الكريم , وهو تقصير غير مبرر
بل ان التغيير والتبديل سنة الله في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) .!