عندما قدم توفيق الحكيم بلاغا للنائب العام ضد الشيخ الشعراوي..
قصة الصراع بين توفيق الحكيم والشعراوي
==========
قصة الصراع بين توفيق الحكيم والشعراوي
==========
لا أحد منا رأى الله. ولكننا عرفناه بالعقل، ولكن عقل توفيق الحكيم جعله يرى الله فى مجموعته القصصية «رأيت الله» بل تحدث معه أيضا فى عدة مقالات بعنوان «تحدثت مع الله» ورغم أننا نؤمن بأن نعامل الناس بقدر عقولهم، فإن عقل توفيق الحكيم كان أكبر من أن يتعامل معه أحد بقدر عقله، وكانت هذه الأحاديث مع الله هى التى فجرت آخر معارك الحكيم الفكرية، والتى كانت أعنفها وأخطرها مع كبار علماء ومشايخ الإسلام الذين اتهموه بالكفر والضلال.
ولكن هل تحدث الحكيم بالفعل مع الله وماذا قال؟
فى مقالات الحكيم جاء أنه طلب من الله أن يقيم حوارا معه لن يقوم بيننا إذن حوار إلا إذا سمحت لى أنت بفضلك وكرمك أن أقيم أنا الحوار بيننا تخيلا وتأليفا، وأنت السميع ولست أنت المجيب، بل أنا فى هذا الحوار المجيب عنك افتراضا، وإن كان مجرد حديثى معك سيغضب بعض المتزمتين لاجترائى على زعمهم على مقام الله سبحانه وتعالى خصوصا أن حديثى معك سيكون بغير كلفة.
وهذا ما اعتبره كبار الشيوخ والمفكرين تجاوزا وخروجا على التعاليم الإسلامية وتعديا على الذات الإلهية، لأنه لا يجوز الحديث مع الله وإنما إلى الله.
ولم يتوقف الحكيم فى كتاباته عند هذا الحد وإنما استطرد «وفجأة حدث العجب. حدث ما كاد يجعلنى يغشى على دهشة، فقد سمعت ردا من الله أو خُيّل إلىّ ذلك»، وهل إذا درست الحساب بنجاح والتحقت بمدارس العلوم كنت سترانى؟ هذا ما سمعته، وهذا يكفى ليجعلنى أعتقد أن الله قد سمح أخيرًا أن يدخل معى فى حديث.
وفتحت هذه المقالات النار على توفيق الحكيم فانهال عليه الكتاب الإسلاميون والدعاة بالمقالات التى تتهمه بالضلال والكفر، فكتب عنه التلمسانى «المرشد العام للإخوان المسلمين وقتها» مقالة بجريدة «النور» فى 9 من مارس 1983 بعنوان «هكذا تختم حياتك أيها الحكيم» ينتقد فيه رأى الحكيم فى أن العلماء سيدخلهم الله الجنة دون حساب، كذلك كتب العالم محمد أحمد المسير مقالة نشرت فى جريدة «اللواء الإسلامى» بعنوان «أدب الحديث عن الله» يتهم فيه الحكيم بالافتراء على الله، أما أشد المهاجمين له فى هذه المعركة فقد كان الشيخ محمد متولى الشعراوى الذى أقيمت له ندوة فى مجلة «اللواء الإسلامى» حول مقالات الحكيم، وتساءل الشعراوى قائلا: الأستاذ توفيق الحكيم لم يقل لنا كيف كلمه الله. هكذا مواجهة، أم أرسل إليه ملكا أم ماذا حدث؟ وما هى الكيفية التى بها هذا الحديث فإن كان الحديث مع الله تخيلاً أن الله يقول فكأن الأستاذ الحكيم قد قيَّدَ مرادات الله بمراداته، وواصل الشعراوى هجومه قائلاً: لقد أباح الحكيم لنفسه ما لم يكن مباحا لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد انتقد الشعراوى رأى الحكيم فى نسبية الأديان قائلا: لقد قال الحكيم إن الملحدين من العلماء أمثال أينشتاين سيدخلون الجنة رغم أنهم لم ينطقوا شهادة «أن لا إله إلا الله»، وأن هؤلاء أتوا بما لم يأت به الرسل، وهذا مساس بصفة العدل عند الله، فالأستاذ الحكيم يريد أن يدخل هؤلاء الجنة بلا إيمان أو حساب وكأنما غفر لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر بدعوى أنهم أضافوا إلى الإنسانية أشياء جليلة.
واشتدت المعركة وتدخل للدفاع عن الحكيم كل من الكاتب يوسف إدريس والدكتور زكى نجيب محمود، أما يوسف إدريس فكتب مقالا فى «الأهرام» بعنوان «عفوا يا مولانا» يهاجم فيه الشعراوى ويعتبره راسبوتين المسلم وأنه ممثل ومدع قائلا: إن الشيخ الشعراوى يتمتع بكل خصال راسبوتين المسلم. قدرة على إقناع الناس البسيطة، وقدرة على التمثيل بالذراعين وتعبيرات الوجه على جيب كبير مفتوح دائما بالأموال. وأنه يمتلك قدرات أى ممثل نصف موهوب.
وقد أثار ما كتبه إدريس غضب العديد من الكتاب والمثقفين المحبين للشعراوى لأنه تجاوز حدود النقد، فكتب د. أحمد هيكل يقول إن هذا كلام «ساقط»، وعلق سعد الدين وهبة قائلا: «إن كلام إدريس لا صلة له بالفكر أو ثقافة وهذا سقوط من الكاتب وإسفاف».
وبعد هذه المقالات طالب الشعراوى بعقد ندوة للمناظرة فى التليفزيون مع توفيق الحكيم ويوسف إدريس وزكى نجيب محمود لمناقشة ما كتبوه، وطالبهم فى مناظرة علنية.
ومع اشتعال المعركة وانقسام الرأى العام والشارع ما بين مؤيد للحكيم ومعارض له، فوجئ الحكيم بأن وزارة الداخلية عيّنت أمام منزله حراسة خاصة بعد أن استشعرت خطرا على حياته أو محاولة اغتيال له على خلفية أحاديثه مع الله، وهنا قام الحكيم بكتابة بلاغ إلى النائب العام ضد الشيخ الشعراوى وهذا البلاغ أو مسودته المكتوبة بخط يده ننشرها فى «نصف الدنيا» يطالب فيه بحمايته من بعض الغوغائيين الذين قرأوا مقالاته وهاجموه، وحمايته من داعية إسلامى هو متولى الشعراوى أشاع بأنه كافر ويطالب فى بلاغه النائب العام بأن يحقق فى الأمر وعلى النيابة أن تتحرى الموقف من عقلاء الدين لتظهر الحق ولا تتركه بدون حكم نزيه من علماء الدين الشرفاء.
ولكن رغم تقديمه لهذا البلاغ ولأنه حظى بنصيب كبير من اسمه الحكيم، فقد تراجع عن آرائه وقام بتغيير عنوان مقالاته لتصبح «حديث إلى الله» ثم «حديث مع نفسى» وكتب قائلا: «إن من فهم أنه حوار بينى وبين الله تعالى على أنه أمر مفكر وتطاول على مقام الله تعالى، أو على الأقل هو ما يمس الإحساس الدينى عند البعض، فقد أقنعت بذلك ولا يمكن أن أستمر عامدا متعمدا على إيذاء شعور المؤمنين»، وقد نشر الحكيم هذه الأحاديث فى كتاب مستقل عام 1983 وأسماه «الأحاديث الأربعة والقضايا الدينية التى أثارتها» وقال فى مقدمة الكتاب «لقد رأيت عند إعادة طبع الكتاب استبعاد كل الكلمات والأسطر التى كتبت تخيلات منسوبة إلى الله مراعاة للحساسية الدينية التى لا أريد إطلاقا أن تسبب إزعاجا لأى مسلم».
وهنا رد الشعراوى معلقا: أنا لم أرم أحدا بالضلال أو الإضلال ولا بالارتداد أو الكفر، وصفة الضلال مقصود بها ما قاله الحكيم، وليس المقصود الحكيم ذاته.
الحكيم والشعراوى تحاربا دون أن يلتقيا، وتصالحا دون أن يلتقيا أيضا، ولكن المدهش فى الأمر أن الشعراوى فى هجومه على الحكيم قال: «لقد شاء الله ألا يفارق هذا الكاتب الدنيا إلا بعد أن يكشف للناس ما يخفيه من أفكار وعقائد كان يهمس بها ولا يجرؤ على نشرها. وشاء الله ألا تنتهى حياته إلا بعد أن يضيع كل خير عمله فى الدنيا فيلقى الله بلا رصيد».
وأخيرا التقى الحكيم بالشعراوى فى رؤيا رآها على فراش المرض بمستشفى المقاولين العرب حين أخبر الأطباء الذين كانوا يعالجونه بعد أن نقلوه من غرفة العناية المركزة إلى غرفته بأنه رأى الشعراوى فى رؤيا، وأعرب لابنته «زينات» عن رغبته فى لقاء الشعراوى، وبالفعل ذهب الشيخ الشعراوى إليه فى المستشفى بعد أن أبلغته زينات بالأمر، وسأله الحكيم «عايز أعرف منك إيه المطلوب منى الآن»؟ فأجابه الشعراوى: المطلوب منك. أن تتقرب من الله قربا شديدا. لتكفِر عن البُعد الشديد. وأهم أدوات التقرب الصلاة. ثم أعطاه سجادة صلاة. وبعدها بأيام مات الحكيم، وعاشت أحاديثه.
#مجلة نصف الدنيا
إرسال تعليق