مدخل إلى العلاقة بين الفيلم والرواية بقلم فراس عبد الجليل الشاروط

احتلت العلاقة بين الأدب الروائي والفيلم السينمائي مكانا مهما في معظم ما كتب عن السينما من أفكار نظريه ورؤى تطبيقيه وصار البحث في مناطق الالتقاء والافتراق بين هذين الفنين مجالا لكثير من الأبحاث والدراسات ومحورا دارت حوله الآراء المختلفة والمقولات المتضاربة.

إن محاولة إعادة النظر في كل ما قيل في هذا الموضوع وتكرار الآراء لن يخدمنا في شيء فلكل فريق حججه وآراءه و مرجعياته الفنية والفكرية التي أدت به إلى التزام وجهة نظر بعينها، ولذا فإننا لن نتوسع في مداخلات هذا الأمر ووجوهه إلا بما يقدم لنا مدخلا صالحا لرؤية هذه العلاقة،وبما يجعل هذا المدخل طريقا ممكنا ننطلق فيه إلى مهمتنا الحقيقية في هذا البحث وهي مهمة تطبيقيه في اصلها وان كانت غير بعيده عن الرؤية النظرية.
بين الرواية والفيلم

ثمة رأيان متناقضان حول علاقة السينما بالرواية ،وثمة منطقة تمتد بين هذين النقيضين، كما هي العادة بين كل نقيضين:-


- الرأي الأول: وهو الشائع كثيرا، يرى إن العلاقة بين الرواية والفيلم علاقة واجبه وشديدة القوة، وتنطلق هذه النظرية من نقاط الاشتراك الكثيرة بين الفنين ومن موروث السينما الذي اعتمد كثيرا من الروايات في تحقيق الأفلام عنها وإعدادها، ويمكن القول إن هذا الأمر لا يعني الرواية حسب بل هو يشمل علاقة السينما بالمسرح أيضا، حيث تشترك هذه الفنون الثلاثة في الطابع السردي لها، أي أنها تسرد أحداثا مع ملاحظة مساحة الحرية في هذا الطابع بين فن وآخر، وهذه الآصرة التي تجمع هذه الفنون الثلاثة إنما هي رأي شائع سوغه كثرة اقتباسات السينما من هذين الفنين، وتشابه أهدافهما ووظائفهما الاجتماعية وأثرها في الحياة المعاصرة...فمختص مثل ايتيان فيزيليه يعبر عن هذه العلاقة( تبدو لي هذه القرابة إيهامية اكثر مما هي حقيقية. يجب أن نرى إن السرد الروائي في خطوطه الأساسية يمكن أن يشكل مادة درامية كما يمكن أن يشكل مادة روائية، وان ما يميز الرواية هي طريقة معينه في تناول القصة ونموها واغنائها بإطار خارجي وتقطيعها إلى عدة أمكنه ومزجها بتحليل مجرد، وفي الواقع فان هذه المميزات الروائية هي بعيدة عن أن تكون قابله للاستيعاب في السينما).....ومما قاله فيزيليه هو ما يعبر عنه موريس بيجا: (أن الأدب المكتوب يستطيع أن يعبر عن الأفكار تعبيرا اقتصاديا افضل مما يستطيع أن يفعله الفيلم، وهذا أمر يتفق عليه كثير من المهتمين بالموضوع ويعتقد الكثير من الناس ان ذلك ينطوي على نتيجة مفادها أن الأدب وسيله ((فكرية)) أما الفيلم فميدانه((العواطف))...وعلى الرغم من اتفاق الدارسين والنقاد على هذه الصعوبات أو وجوه الاختلاف العميقة بين الرواية والفيلم إلا أن ثمة أمرين تجدر الإشارة إليهما:

1=ان كثيرا من المبدعين السينمائيين كانوا يحاولون باجتهاد ردم هذه الهوة وهي((فكرية))الرواية، بإيجاد معادل بصري أحيانا أو الاستفادة من تقنيات السينما ووسائل إنتاج المعنى في اللغة السينمائية للتعبير عن الأفكار المجردة التي تحملها الرواية.

2=إن كل المنظرين الذين تعرضوا لهذه العلاقة أهملوا عنصرا غاية في الأهمية يسهم في ردم الهوة ونقل الأفكار المجردة سينمائيا فعلى الرغم من عجز الرؤية البصرية-وهي وسيط الفيلم-عن إيجاد معادل بصري مضبوط ومعياري يمكن الركون إليه دون التباس للأفكار الباطنية والرؤى التحليلية المجردة في الرواية،على الرغم فان الباحث يرى أن أداء الممثلين هو قيمة مهملة عند كل المنظرين في هذا الباب، فالممثل يمكن أن ينجح في نقل ما يعجز عنه البناء البصري في لغة السينما، أو في اقل تقدير يمكنه أن ينقل للمتلقي الخطوط العامة والأساسية من تلك الأفكار والتي-بدونه- يستحيل على الفيلم أن ينقلها بوسيلة من وسائله البصرية الممكنة.

- الرأي الثاني: النقيض في أمر العلاقة بين الرواية والفيلم، فهو ما صرح به بعض السينمائيين مثل انغمار برغمان حيث يرى أن الفيلم لا علاقة له بالأدب فطبيعة الاثنين ومادتهما مختلفتان عادة،وهو ما توسع في التعبير عنه السينمائي-الروائي آلان روب غرييه في حوار معه(ان نرى تطابقات معينه بين جمل وصور أرى ذلك عديم الجدوى وأمراً خطيرا بالنسبة لي:هما مادتان مختلفتان كليا بل متعارضتان، أنا أواصل إنجاز أشرطة وكتابة روايات وليس أشرطة برواياتي ولا روايات بأشرطتي، لأنهما فعاليتان منفصلتان تماما. ويمكنك ان ترى كل العلاقات التي تريدها بين السينما والأدب بالنسبة لي لا أرى أية علاقة).

إن هذه الرؤية المتطرفة تبدو استعراضية ومجانية اكثر من كونها حقيقة بل أن فيما يفعله غرييه وبرغمان ما يدحض ما ذهبا إليه، فقد استفاد غرييه من ما يسمى(رؤية الكاميرا) في إيجاد تقنية فنية في رواياته(إن الموضوعية السينمائية الهدف الذي يسعى إليه كاتب الرواية فهو يرى أن العنصر اللغوي الملائم للرواية الجديدة إنما هو الصيغة البصرية الوصفية التي تكتفي بان تقيس وتقوم وتحدد وتصف) ..ومرة أخرى يدحض غرييه ما قاله بخصوص عدم إنجازه اشرطه برواياته ولا روايات بأشرطته(لم اقدم لآلان رينييه نص سيناريو العام الماضي في المرناباد فقط بل التقطيع الكامل للفيلم أي قدمت له فيلما متخيلا كاملا مزودا بالمونتاج، وهو النص الذي نشرته فيما بعد كرواية مصورة).

أما برغمان فقد اعتاد على كتابة سيناريوهات أفلامه بصورة أدبية، أي بوصفها نصوصا لغوية أدبية وليس بمعادلاتها البصرية أو نصوصا سينمائية بصرية كما هو حال سيناريو فيلم ( سوناتا الخريف).

إن كلام هذين المبدعين يصدق على مفهوم الاقتباس لا على مفهوم الفن الروائي فهما قد أفادا من الرواية إفادة غير مباشرة وان لم يقتبسا عملا روائيا بعينه ويحولاه إلى فيلم سينمائي...ويرى الباحث الدكتور طه الهاشمي إن تطور فني الرواية والسينما سوف يطيح بهذه النظرية الجزئية للعلاقة بينهما(لقد تطور أساليب السينما شانها شان الرواية إلى القضاء على مفهوم الأبطال واختفاء الحبكة وغيره من عناصر السرد والوصفية وهي بهذا إنما تعبر بصدق عن الزمن الذي نعيشه)، بمعنى آخر أن عصر تداخل النصوص وتلاحم الأجناس يمكن أن يكون عصرا لتداخل الفنون دون هيمنة فن على الآخر في الصيرورة الإبداعية النهائية إلا بالقدر الذي يتحكم به الوسط الإبداعي الذي ينتمي إليه النص المنتج..إن شكل العلاقة الفعلي بين الرواية والفيلم هو الاقتباس ومعلوم أن الدارسين يضعون الاقتباس في ثلاثة أنواع حسب ما قسمها لوي دي جانيتي:-

أولا: الإعداد غير المشدود وهو( مجرد فكرة وموقف أو شخصية مأخوذة من مصدر أدبي ثم يتم تطويرها بصورة مستقلة)

ثانيا: الإعداد الأمين وهو( يحاول إعادة خلق المصدر الأدبي بالتعبير الفيلمي محافظا على روح المصدر الأساسي قدر الإمكان) لقد شبه اندرية بازان المعد الأمين بالمترجم الذي يحاول أن يجد المعادلات للأصل.

ثالثا: الإعداد الحرفي/ الأدبي وهو أن (الاختلافات بين الإعداد الأمين وغير المشدود والحرفي هي في جوهرها مسالة درجة وفي كل حالة يقوم الشكل السينمائي لا محالة بتغيير المضمون الأصلي الأدبي)

ان الذي يبدو لنا من خلال ما عبر عنه لوي دي جانيتي هو أن تغيير الوسط يفضي بالضرورة إلى تغيير المضمون وبالتالي فان أي إعداد سينمائي مهما كانت أنواعه هو مختلف ضرورة عن الأصل الأدبي بدرجة أو بأخرى ،والأمر الذي يوله جانيتي اهتماما هو إمكانية تداخل أنواع الأعداد الثلاثة في عمل سينمائي واحد. فالفصل الذي نلحظه في كلامه يوحي بانعدام إمكانية استخدام نوعين من الإعداد بل وجود استخدام نوعين من الإعداد بل وجود استخدام اكثر من نوع واحد، فالرواية المليئة بالأحداث الثانوية ستضطر المخرج أو المعد السينمائي الى تكثيف هذه الأحداث بصورة ما تسهم في نقل الحدث الرئيسي،وفي هذا الأمر يتوجب عليه أن يداخل بين الإعداد غير المشدود من خلال اختياره حدثا رئيسا أو موقفا مركزيا أو شخصية محورية يقيم عليها فيلمه وهي كذلك في الأصل الأدبي الذي نقل عنه، والإعداد الأمين الذي يجعله يحافظ على الخط العام للأصل الأدبي من خلال الاختصار والتكثيف ومراعاة الفكرة الأساسية ومقاصد الرواية الرئيسية، أما محاولته إيجاد معادلات بصرية مطابقة لما هو موجود في مواضع من الأصل الأدبي فهي إعداد حرفي لا محالة، وهكذا ففي كل فيلم تقريبا تتداخل الأنواع الثلاثة للإعداد كلها في صياغة الرؤية الفيلمية للنص الأدبي غير إنها لا تمتلك الأهمية ذاتها. ومعنى هذا إن مبدأ الهيمنة هو الذي نصنف الفيلم حسب نوع معين من الإعداد، فالأنواع كلها متوافرة ولكن النوع المهيمن هو الذي يصبغ الفيلم بطابعه دون أن يلغي وجود النوعين الآخرين ولكنه من خلال هيمنته وأهميته البارزة يغطي عليها ويحتل مساحة اكبر منهما.

اضف تعليق

أحدث أقدم