باسم الذهبي يكتب: هل نحن مصريون أصلاء؟

 أستمحيكم عذرًا أعزائي القراء إن كان العنوان صادمًا بعض الشيء، فليس المقصد منه الانتقاص من مصرية أحد، فقط؛ استرعى انتباهي أن تتعالى بين الحين والآخر أصواتٌ تتباهى بالشعب المصري وبمدى تميزه وتفرده عن بقية شعوب المنطقة، بل ويزايد البعض بالتباهي بتميزنا عالميًا وبأن لا مثيل لذكاء أطفالنا الفطري الألمعي وما شابه من النظريات التي تجنح للشوفونية والنرجسية بشكل مخيف ومقلق للكثيرين ومنهم كاتب هذا المقال.

أرجعني هذا لسنين خلت كنت قد بدأت فيها القراءة بشغف عن أصول العائلات المصرية وتواجدها الجغرافي بين المدن والمحافظات بل وربطها بمحيطها العربي والأفريقي والبحر متوسطي، وكم رنوت لوجوه المصريين العديدة في حلي وترحالي لأميز الملامح وأحاول جاهدًا أن أستقرأ منها مدى التوافق بينها وبين الوجوه المصرية الأيقونية العالقة بأذهاننا كما في تماثيل الأجداد من المصريين القدماء أو من خلال “لوحات الفيوم” الشهيرة وهي لمن لا يعلم بورتريهات رُسمت على توابيت المصريين في العصر القبطي، وهي رسومات بديعةٌ بحق وبالفعل لها روابط ببعض الوجوه المصرية الموجودة حاليًا.

هنا نعود لسؤال المقال:
هل من الممكن أن ندّعي بأننا مصريون أصلاء أبًا عن أمٍ عن سابع جدٍ كما يُقال؟
هل هناك من تفرد جيني أو تشريحي للمصريين دون غيره؟


بنظرة سريعة في الوجوه المصرية يوميًا وبمراجعة ألقاب العائلات من الممكن بسهولة أن نجاوب بـ “لا” قاطعةً لا ريب فيها! لكني قبل التسرع بالنفي أود أن أستفيض قليلًا من خلال السير في طريقين قد نجد فيهما الإجابة الشافية، أولهما هو قراءة التاريخ وثانيهما الطريق العلمي.
صبرًا، فالآتي ممتع لا شك.. حسنًا. لنبدأ في هذا المقال بقراءة التاريخ:
نجد أن توسط جغرافية مصر بين قارات العالم القديم (أفريقيا وآسيا وأوروبا) واعتدال الهواء وخصوبة أرضٍ ينتصفها نهر النيل الخالد العظيم قد دفع بتجمعات بشرية أن تستقر في وادي النيل وتكون مجتمعًا زراعيًا منذ فترةٍ قدرها بعض العلماء بـ 110 آلاف سنة أي في العصر الحجري الأوسط وهي بالأحرى فترة ما قبل كتابة التاريخ، حيث إن التاريخ أو “التأريخ” في مصر رُبط بظهور الكتابة فيها سنة 3400 ق. م كثاني أقدم كتابة مدونة مكتشفة في العالم القديم بعد إكتشاف أول كتابة بكتوجرافية سومارية في بلاد الرافدين تعود لسنة 3600 ق. م (أي قبل 200 عام من أقدم كتابة هيروغليفية).
ففي مصر تجمعت عوامل عديدة من حضارةٍ واعدةٍ في طور النشأة وتربةٍ خصبةٍ وهواءٍ معتدلٍ مما دفع لهجرات متتالية لأعراق بشرية مختلفة قديمًا لتستقر بأرضها وتعمرها.

ولنستدل على صحة هذه النظرية دعونا نتأمل في تمثالين شهيرين؛ أولهما تمثال “الملك خفرع” باني الهرم الأوسط (من عهد الأسرة الرابعة) البديع والمنحوت بإتقان شديد في الديوريت الصلد وهو ذو ملامح صارمة قوية ووجه يميل للطول منه للإستدارة بعينين متسعتين وجسد قوي متناسق قد يميل للطول، وهو بالمناسبة الوجه المنحوت على رأس تمثال أبو الهول.
أما التمثال الآخر ينتمي لفترة قريبة من التمثال الأول وهو تمثال “شيخ البلد” الخشبي الشهير المسمى “كا عبر” (يعود لعهد الأسرة الخامسة) فتجده ذا ملامح بسيطة ووجه مستدير وعينين متوسطتي الاتساع (العينان بديعتا الصنع مطعمتين بأحجار كريمة لامعة) وبنية جسدية “مكعبرة” تميل للسمنة وقامة قصيرة.

تعرف على أغرب تمثال منحوت بالعالم  تمثال الملك خفرع
تمثال الملك خفرع ذاك أقرب الشبه بأبناء الصعيد في جنوب مصر وبشرتهم القمحية المميزة -في الأغلب ليس في الأعم- وهو شكل يصفه علماء المصريات بأنه الشكل الأقرب الغالب على المصريين القدماء، بينما تمثال شيخ البلد يتشابه مع أبناء الوجه البحري حيث البشرة المائلة للبياض والبنية الجسدية التي تميل للامتلاء والتي تشبه ملامح أبناء الهلال الخصيب من شمال العراق والشام وجنوب الأناضول ونواحيها.
إذًا من المتوقع بشكل كبير بأن في عهد المصريين القدماء هاجرت جماعاتٌ لمصر وعبرت سيناء واستقرت في شمال مصر وانصهرت مع المصريين القدماء المتمركزين أكثر في جنوب مصر حيث العاصمة الإدارية القديمة “ممفيس”.

هل انتهت القصة هنا؟
لا طبعًا، بل هناك أحداثٌ جرت غير الهجرات السلمية التي كانت تتم بهدوءٍ على مدى عصور مصر القديمة ألا وهي قوى الغزو الغاشمة من الشعوب المحيطة؛ بدءًا من غزو الهكسوس الآتيين من الساحل الشامي وسيطرتهم على شمال مصر لفترة قُدّرت بمائة عام ومنهم من اختلط بأهل الشمال في مصر واستقروا بها حتى بعد دحر ملوكهم وجيوشهم وطردهم على يد ملك طيبة المصري أحمس الأول (الأسرة الثامنة عشر) شر طرده.
اختلاط الهكسوس بأهل مصر الشماليين بالتأكيد قد أضاف دمًا جديدًا على الدماء المصرية! بل ومنها من اختلط بالدماء الملكية أيضًا حيث إنه قيل في رواية غير مؤكدة تاريخيًا بأن ملك الحيثيين (أبناء عمومة للهكسوس) قد أُعجب بشجاعة الملك المصري الشاب رمسيس الثاني بعد معركة قادش الشهيرة فزوجه ابنته تدعيمًا لمعاهدة السلام الأقدم في التاريخ بين المملكة المصرية العتيدة وبين الحيثيين.
بعدها تلت عهودٌ من الغزو المتتالي بدءًا بالفارسية الأخمينية ثم البطلمية ثم الرومانية والبيزنطية وهكذا دواليك إلى نهاية حكم الأسرة العلوية الألبانية الأصل في 23 يوليو 1952. إذًا فقد جرى في عروق قاطني هذا البلد الطيب دماءٌ مختلفة وتداخلت الأعراق بشكل كبير ولذا حوت مصر دومًا ودائمًا مدنًا كوزموبوليتانية بإمتياز مثل الإسكندرية كإحدى أقدم عواصم مصر والتي تستطيع بسهولة أن تميز بين ملامح أهلها وقاطنيها اختلاف الأعراق.
خلاصة القول عن الطرح التاريخي هذا بأن شعب مصر الحالي هو في الأغلب نتاج بوتقة صهر لأعراقٍ عديدة هاجرت واستقرت وكونت مجتمعًا متميزًا بحق في تآلفه على مدار العصور وتسامحه الذي يُستمد من أرض مصر الطيبة، لكن هذا المزيج الرائع لا يمنح أبناءه أي تميز عن الشعوب الأخرى تشريحيًا أو نبوغًا فطريًا أو ما شابه.
أيُّ تميزٍ في أفراد الشعب المصري هو نتاج مجهود شخصي ولعله نتاج الظروف الصعبة اقتصاديًا أو اجتماعيًا التي قد تدفع العنصر البشري إلى شحذ همم الاجتهاد والتفوق أكثر من غيره.
فدعونا نكون أكثر واقعية ولنأخذ بأسباب النجاح بدلًا من الارتكان إلى تاريخٍ عتيدٍ نتشرف به بالتأكيد لكنه لا يصنع الحاضر ولن يضيء لنا طريق المستقبل.


هنا نصل لنهاية الطريق الأول من الإجابة عن سؤال المقال، وهي الجانب التاريخي والتي بينت لنا ملمحًا من الإجابة بأن مصر القديمة ومن قبل توحدها على يد الملك العظيم مينا نارمر (3200 ق. م) قد استقبلت هجرات من منطقة الهلال الخصيب استقرت في مصر (وشمالها بشكل أكبر) وانصهرت وتداخلت الأعراق تباعًا مع كل قومية غزتها بعد غروب شمس دولة المصريين القدماء، وهذا يفسر بأن المصريين الحاليين هم نتاج عملية انصهار فريدة لقوميات عديدة أتت للقطر المصري إما سلميةً على ظهر محمل أو غازيةً على صهوة جواد حتى صبيحة يوم 23 يوليو 1952 وإن لازلت أؤمن شخصيًا بأن الهجرات لمصر لم ولن تنتهي، ففي مصر بريقٌ لن تخبو جذوته.

اقرأ أيضا : شاعرات عربيات وقعن في الحب 

اضف تعليق

أحدث أقدم