محمد عمارة لم يقع في الخية بقلم / حاتم سلامة

مقالات - أقلام حرة - حاتم سلامة :
لاشك أن القراءة والكتابة من أعظم ما تُعاقِبُ به في الدنيا كاتبا أو مثقفا، وهذا ما كان يدركه عبد الناصر حينما كان يأمر بإيقاف العديد من الكتاب والصحفيين عن الكتابة والنشر، إذا ما كتبوا شيئا لا يرضيه أو يستهوي مزاجه، ولم يكن في وسع بعض الكتاب الاسلاميين في هذه الحقبة المرعبة، أن يكتبوا أو يعبروا عن آرائهم وتراثهم وهويتهم، فذلك غير مقبول، أو مرحب به أو مسموح بحدوثه.

فكيف يكون الحال، وماذا يكون الوضع؟ 

هل يستمر هؤلاء مكبوتة أقلامهم مقهورة أفكارهم، لا يعرفون سبيلا إلى ظهورها وانتشارها؟!
خاصة أولئك الذين يهتمون بالفكر، ولا يتكلمون في تعاليم الدين الفقهية من الطهارة والغسل والتيمم!

عمارة

وكان الاستاذ والمفكر الكبير أنور الجندي، واحدا من هؤلاء الذين لا يمكن أبدا أن يقفوا مكتوفي الأيدي دون ان تنطلق أقلامهم بالكتابة، ومن هنا رأينا أنور الجندي يكتب في هذه الفترة العصيبة، وقد شرح لنا الطريقة والحيلة التي تجعله يخدم مشروعه الذي نذر له حياته، فحكى لنا في مذكراته، أنه كان يستغل أو يغتنم التوجه القومي، وإحياء القومية العربية لينفذ من خلاله إلى إحياء قامات وزعماء الاسلام ورموزه الكبار، ولكن بتفسير عربي يخدم التوجه العام، وهو ما كان في كثير من كتابات أنور الجندي في ذلك الوقت.!
انظر إلى هذه الفترة التي عرض فيها فيلم صلاح الدين، ذلك البطل الاسلامي العظيم ، الذي حرر القدس من قبضة الصليبيين ، فرغم ما شاب الفيلم من بعض العبارات التي تخدم الفكر القومي العربي الناصري، إلا أن المسحة الاسلامية كانت طاغية ظاهرة ملموسة مرئية، خاصة حينما يرددون في معاركهم: الله أكبر.

الشيخ الغزالي والاشتراكية

وهو نفس الخط الذكي الذي سار عليه الشيخ الغزالي حينما دخل الاتحاد الاستراكي وتدرج في مراكزه حتى وصل لأعلاها بهدف خدمة دينه ونفع دعوته، وقال في مذكراته كلاما شديد الوجاهة والعقلانية يستحق أن نقف أمامه متأملين حيث يقول:"نعم قبلت ما رفضه غيري من كلمات الديمقراطية والاشتراكية مثلاً، وعن طريق الكراهية الفطرية للاستبداد السياسي أو الجشع الرأسمالي؛ أخذت أعرض من ديني النواحي المقابلة أو المماثلة، فإذا نجحت في إبراز الحقيقة الإسلامية –ويجب أن أنجح وإلا كنت داعياً فاشلا- انتقلت بالفرد الذي أحدثه أو المجتمع الذي أخاطبه، إلى آفاق أوسع ونواح تمسُّ العقيدة والعبادة وسائر شعبَ الإيمان.
بل إنني دخلت في ميدان "العروبة" بهذه الخطة، وقلت لأولئك الناس: تريدون بعثاً عربياً؟ وأنا كذلك أريد بعثاً عربياً!
هل رفع شأن العرب رجل أعظم من محمد؟ هل خلّد لغتهم إلا القرآن؟ هل دخل بهم في التاريخ إلا الإسلام؟ هل كفكف عصبياتهم وأمات حزازاتهم إلا هذا الدين؟ فأذهب فرقتهم، ورفع رايتهم، ونصرهم على عدوهم، وحمَّلهم رسالة خالدة، هي الرحمة للعالمين...!
ما هي الرسالة التي يحملها العرب إذا تركوا الإسلام؟
تقولون: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة؟ ما هي هذه الرسالة؟ إن لم تكن الإسلام؟ ثم إن الإسلام جعل العربي النصراني مضمون البر والعدل، موفور الكرامة والذمة؛ وما أظن أحداً من العرب الذين يحترمون جنسهم يكره محمداً أو يَوَدّ العَنَتَ لقومه والهوان لرسالته...!"
هكذا كان الغزالي وهو من هو في صفوف الاشتراكيين، ولكن لماذا؟!

وحينما نشر الداعية الكبير الدكتور مصطفى السباعي كتابه القيم (اشتراكية الاسلام) إذا بالتيار الناصري الاشتراكي ينشر الكتاب وتوزعه منصاته الثقافية على الجماهير، فعلوا هذا بكتابه، وهو علم من أعلام الاخوان المسلمين، وقائد من قادتهم الكبار، لكن الناصريين لم يراعهم ذلك أو يهتموا له، فالمهم أن يخدموا أفكارهم، مما حدى بالسباعي أن يغضب كثيرا ويذكر في الصحف: أنه لم يؤلف كتابه لخدمة الاشتراكية، وإنما ليظهر أن الاسلام فيه كل ما تنشده الافكار الاخرى من خير البشرية.

يمكن القول إذن أن هناك تقارب كبير بين الدعوة إلى القومية العربية وبين الصحوة الاسلامية، لأن العزة العربية لم يقمها أو لم يقم لها مجد إلا بالاسلام، صحيح أن أربابها يتنصلون من ذلك، لكنهما أمران يرتبط أحدهما بالاخر ولا ينفصلان أبدا عن بعضهما، فلا عز للعرب إلا بالإسلام، هو الذي صنع لهم قامة وقيمة.

ولقد ولت الناصرية والقومية عن مصر ، وأعلن هذا الفكر فشله وتراجعه وسقوطه، وبقيت منه فقط ما يخدم الاسلام وحده، فإذا عرض فيلم صلاح الدين، وترددت عبارات القومية العربية، فإنها لا تخدم شيئا في هذا الزمان ولا تبقى من المشاهد المؤثرة، إلا ما يخدم الدين من البطولة والفداء وحب الجهاد، وتعظيم الرمز الاسلامي الكبير.

عمارة وفخ الناصرية

كل هذه الافكار تذكرتها وتمثلت في ذهني، حينما رأيت أحد الاصدقاء يردد شيئا غريبا وغير مقبول ، ويكاد العقل أن ينحرف إلى الجنون حينما رأيته وهو يدعي أن الدكتور الراحل محمد عمارة كان يقول :" إن الصحوة الإسلامية امتداد للتجربة الناصرية !!!!" كان صديقي يرددها كثيرا، وكأنه أمسك على الدكتور زلة وأثبت له هفوة، يذكرها وكأنها هنة أوقعت الدكتور في الخية، وأوتي من حيث لا يحتسب ، بل هي اللفظة في نظره التي يمكن أن تُسقط كل تاريخه وفكره، إذا ما وضعناها في التقييم والميزان!! وهو ما دعاني للاستفسار عن مصدر الكلام، لكنني في قرارة نفسي، كنت على يقين أن الدكتور لا ينطق بمثل هذا الكلام، أو إن نطق به فلا شك أنه في كتاب قديم من أيام ماركيسيته، وعمله الفكري في هذه التيارات، لأن منهجه وفكره وطريقة تفكيره وهويته وانتماءه المعاصر، لا يمثلان لمثل هذا أو ينطقان به أبدا، ولكن لا مناص من الرجوع إلى مصدر الكلام، وحينما سألته عن مصدر الكلام، أعلمني أنه ذكره في كتاب (جمال الدين الافغاني بين حقائق التاريخ وأكاذيب لويس عوض) فأسرعت الخطى لتحميل الكتاب وأخذت في القراءة مرة ثانية، بعد أن كنت قرأته من سنوات مضت، حتى اهتديت للنص الذي يقصده صديقي.

لم أكن أصدق أبدا أن ينطق الدكتور عمارة بمثل هذا الكلام، وهو الذي يعرف جليا عمق وجذور وكفاح التيار الديني على الأرض.!
بل يعرف جليا أن الحقبة الناصرية، كانت هي العدو الأكبر لهذا التيار حيث اعتقلت رجاله وحاربت أفكاره، فكيف تكون مصدرا له ولامتداده ؟!
بل كيف يكتب مثله، وهو الذي سُجن في هذا العهد خمس سنوات تجرع فيها مرارة السجن وألمه، وثمن الكلمة والحرية؟!

ظن غريب لا يدلل عليه أو يقره عقل أو منطق ، ومن ثم..و لثقتي الكبيرة في استحالة صدور مثل هذا الأمر من الراحل الكبير، اضطررت للرجوع إلى كتابه هذا حتى أتحقق الأمر، ووجدت فيه السطور المقصودة، وسألت صاحبي هل هي هذه؟ فقال نعم، وهي التي يتحدث عنها ويحتج بها كدليل يدين الراحل الكريم، والتي قال فيها: " إن التيار الاسلامي المعاصر قد انطلق مواصلا ومطورا المشروع القومي العربي الناصري..".

وهنا.. وأمام القارئ الذي أدعوه للتركيز الشديد، في قراءة الألفاظ بعناية، وتمييز فيما بينها من فوارق ظاهرة، تدلل على القصد الحقيقي الذي عناه دكتور عمارة، حيث يقول على تعبير صديقي: " وأليس الدكتور عمارة هو الذي قال بأن الصحوة الإسلامية امتداد للتجربة الناصرية !!!! " وأنا هنا أدعوك للتركيز على كلمة امتداد، بينما الراحل القدير كان يقول: "إن التيار الاسلامي انطلق وطور المشروع القومي العربي الناصري" وطور أي طوره بما يتناسب معه في الفكر، وما يتلقي معه في الاتجاه، أي احتواه وتعاظم عليه بما له قوه تفوقه، وهذا شأن من يطور ويعدل، فليس من المعقول طبعا أن يطور فكره في الاشتراكية أو القومية، التي تعد كلها أفكار غريبة، منها ما يخالف الدين, ومنها مالا يجعله هدفه المباشر، وهكذا تكون القراءة المبنية على فهم فكر الرجل، وفهم كتاباته ومرامية التي تتوافق مع كل طرحه المعلوم للقاصي والداني، أما أن الدكتور يريد أن يقول: بأن التيار الديني ثمرة من ثمرات التيار الناصري القومي، فذلك فهم لا يهتدي إليه أحد أبدا، ممن يحاولون إعمال عقولهم وتأملاتهم، وهم يقرؤون لمُنّظِر من مًنظري التيار الديني.!!
محمد عمارة

لقد تربت هذه الأمة على التراث الديني ، وتشربت الروح الدينية والهوية الاسلامية في تلك الحقبة، ولكن من حيث لا تدري، ومن مسميات مختلفة وألفاظ مغايرة، فالأمة التي تربت على سلسلة أعلام العرب، التي ظهرت في تلك الآونة ، لتحيي سيرة أبطال الإسلام من الفرسان والقادة والزعماء.. لم تنس أبدا ولم يندرس من أذهان أفرادها، مفاخر هؤلاء حينما زالت وتلاشت دعوتهم للقومية، وكانت هذه الثقافة التي اغتنمها التيار الإسلامي، لدعم ركائزه ودعم صحوته، وإحياء ماضيه، مع تطوير ملحوظ، وتغيير منظور، حين أزال كلمة العربي، أو حينما أزيلت هي من ذات نفسها، وسقطت الدعوة إليها، ليضع مكانها كلمة المسلم.

فهل ياترى فهمنا مقصد الدكتور من كلامه ؟ أم نصر على اتهامه بالدعوة التي لا تليق على تاريخه وفكره وأطروحاته؟!!!!!!!!!!!!!!
---
بقلم / حاتم ابراهيم سلامة 
كاتب وناقد مصري

اضف تعليق

أحدث أقدم